عن التميز البنيوي في الرواية العراقيَّة

ثقافة 2020/02/22
...

بشير حاجم
 
أفكر، هنا، في الاشتغال على هذه الثنائيّة التفاعليّة: الشعرية “البويطيقية” حيث (بنية + تقنية)، دون الانشغال عن نظيرتها: العلامية “السيميائية” حيث (جمالية + ثيمية)، كي أثبت أن للرواية العراقية سرداً فذاً بخصيصتين متواشجتين: بنيوية ـ تقنوية.
بفعل الأولى: البنيوية، منها أو عنها، توصف “البنية” بأنها تجاوزٌ لا بدّ منه: للجزئيات بالعلائقيات. لذلك على بنية النص الروائي، كمظهر حكائي، أن تتجاوز الثيميات بالتقنيات. كلما تعاظم تجاوزها هذا، نحو أقصى متاح أمامه، تعاظمتْ باتجاه كينونتها إنجازا من الكاتب للقارئين: الاعتيادي ـ الاستثنائي. من هنا، ليس قبْله، يمكن بهذا التجاوز المتعاظم، لها، أن يقال إنّها فذّة: شديدة التميز.
لولا بنية كهذه، الآن، لم يتسنّ “التجديد” لنماذج:
ستينية ـ سبعينية، بدءاً، كالأنموذج الأحادي لـ عبد الرحمن مجيد الربيعي: الوشم 1972، خصوصا، إذ اعتمدت بنيته نسقا دائريا، في الدرجة الأولى، قد ازدوج بنسق تناوبي، تماما، حيث: الحاضر سارده خارجي - الماضي سارده داخلي.
ثمانينية ـ تسعينية، أيضاً، كالأنموذج الثلاثي لـ عبد الخالق الركابي: الراووق 1986/ قبل أن يحلق الباشق 1990/ سابع أيام الخلق 1994، خصوصا، فهو “بوليفوني”، متعدد الأصوات، ذو واقعيتين: سحرية + خيالية.
كذلك لولا هذه البنية الفذّة، الشديدة 
التميز، ما تسنّى “التحديث” لنماذج من العقدين الأخيرين: الماضي + الحاضر، متّصلين غير منفصلين، وفْق هذا الإلزام للروائي بروايته: أن يكون هو فيها أشخاصا ثلاثة: الكاتب/ الشخصية/ القارئ، معاً، 
كـ: حميد الربيعي، مثلا، في: تعالى.. وجع مالك 2010، حصرا، هكذا:
* حقُّه أن يعمد إلى أية ثيمة، ذاتية/ غيرية/ مشتركة، فيحولها إلى رواية، تجنيسا، حيث يفهم أن “ليس هناك انفصال بين ماذا نقول وكيف نقول”، سياقيّاً، وهذا الحق، هنا، سيمارسه: حين يجعل “الثيمة” ـ تمثيلا ـ أبرز كينوناته (كاتبا).
* واجبه أن يعي بأنّ لشخصيات روايته مصادرَ أربعة أهمّ: هو ذاته/ أشخاصا يعرفهم حتما/ آخرين يسمع عنهم/ خياله الخالص، تحديدا، خصوصا شخصية بطل، منها، حيث تكون له “وجهة نظر محددة عن العالم، وعن نفسه هو بالذات”، ضرورية، وهذا الواجب، هنا، سيؤدّيه: حين يجعل “البطل” ـ تخصيصا ـ أبرزَ كينوناته (شخصيةً).
* مرادُه أن يتقمّص شخصا حقيقيا، عارفا به أو سامعا عنه، ليصنع منه بطلا، تاريخيا/ سياسيا/ اجتماعيا... إلخ، إذ يتحتم عليه إقناع قارئه بهذا البطل، سواء كان مجسدا أم مجردا، على أساس أن “صورة القارئ تكون حاضرة باستمرار في وعي الكاتب”، تماما، وهذا المراد، هنا، سيحقّقه: حين يجعل “الإقناع” ـ تعيينا ـ أبرز كينوناته (قارئاً).
الآن.. أنّى يكون الروائي في روايته جمْعَ أشخاصه الثلاثة: الكاتب/ الشخصية/ القارئ، كما تقدَّم، ثمة، قبالته، ما يتعلّق بمتواليته الواقعية، سواء ماضية أم حاضرة، وهو إدراكه توثيقها: الإيجابي، العمقي ـ الباطني، الذي يُخضع الحقيقةَ للرواية = نصيا داخليا (كاتبا + شخصية + قارئا).
هنالك روائيون ترجموا هذا الإدراك متأخرين بـ : مجرّد تجاوز البنية للثيميات بالتقنيات، دون تعاظمه، قد يكفل إنجاح أنموذجٍ فيما أخفق فيه نظيرٌ سابقٌ لروائي بعينه.
* رياض الفهد في أنموذجه: وقفة 
اللقلق 2011، أوّلا، من حيث أن بنيته، لتكون تجاوزية، ذات ناقلين ثلاثة (سارد 
عليم موضوعي/ راوٍ كذّاب ذاتي/ ناجٍ 
وحيد مهيمن) طيلة فصوله، الخمسة 
عشر، التي تُستهل بـ: الكذاب يروي بدايات مشوشة.
* عبد الزهرة علي في أنموذجه: زهايمر X 2015، ثانيا، باعتماده البنية “البوليفونية” ذات التعدد الصوتي: تنوع المواقف الفكرية حيث اختلاف الرؤى العقائدية على مستوى “المضمون” مع تلوين التكنيك “ثنائية: الصيغ ـ الأساليب” ثم توظيف الكرونوطوب “وحدة: الزمان ـ المكان” على مستوى “الشكل” فضلاً عن أن فيه بنية دائرية، عبْر: فاهم = البطل، منذ ابتدائه “صعقتني جثة الرجل المسجى على الرصيف” - قبل انتهائه “جاءت دورية الشرطة.. فرقت الناس وحملت الجثة” ص.
* موسى الهاشمي في أنموذجه: الجدار المتصدّع 2010، ثالثا، حيث بنيته إطارية (كان أبي يعقد مجلسا.. كل يوم، يقتصر على لفيف من الجيران، يروي لهم حكاية الجدار المتصدع)، بحسب استهلاله، وهذه الإطارية، بصرف النظر عن توزعه بين فصول خمسة، قد انبنى منها “حكايةً” تلو أخرى: تتابعا/ تراوحا/ تناوبا، نسقيا، فبدا ذا تشابكية بالانتقالات الزمانية والتغايرات الساردية.
لكنْ ثمة روائيون ترجموا الإدراك ذاته مبكّرين بـ: فقط تعاظم البنية المتجاوزة للثيميات بالتقنيات، حيث يتعاظم تجاوزها، ما يحقق نجاح كلّ أنموذجٍ لأيّ روائي.
ففي أنموذجه: ليالي ابن زوال 2007، أوّلا، يلجأ كريم كطافة إلى بنية: غير روتينية! يمكن استكناه عدم روتينيتها، إنْ جاز وصفها هكذا، بدءا من “المحتوى” اللاحق بانتهاء المتن. والأخير، أي متن الأنموذج، يفعّل هذا الاستكناه ـ أكثر فأكثر ـ خصوصا بين: ص196 ـ ص218. بهذا التفعيل، لاستكناه انعدام الروتينية فيها، تتشكّل للأنموذج بنيته: الأفقية ـ العمودية/ معا. فيُستشفُّ منها، متجلية لا متخفّية، إنه ليس ذا نص وحيد، أبدا، بل هو ذو نصوص عديدة. لكنها ليست انفصالية، تفاككية، إنّما هي اتصالية، ترابطية، باستثمار واعٍ لـ : النسقية/ الحوارية/ المكانية/ الساردية.
وفي أموذجه: زائية الوجد 2004، ثانيا، ينهض عبد عون الروضان ببنية مزدوجة:
شكلية: عنوانيّة.. فصول خمسة معنونة بحروف مكتوبة غير مرسومة (زاي..... ألف/ ياء/ دال... ميم/ واو... ألف/ نون) = خطّاً أيمن (زيدون “الزين”)/ خطّاً أوسط (دَم)/ خطّاً أيسر (الأميرة أخت “الزين”) = المتن، وفقا لهذه الخطوط، سيبتدئ بـ “الزين”، مهيمنا عليه، فيما يكون الـ “دم” متناثرا على فصوله، خمستها، لينتهي بـ”الأميرة”، أخته، متخللة فيه. - تمهيدية.. الفصول الخمسة ممهدة بصيغ شاعرية، للروائي نفسه، يُستهلُّ أولها ـ أي لفصل “زاي..... ألف” ـ بـ “زيدون” أيضا (الزين/ ذو الشعر الأشقر كحقل حنطة ص7) = المتن، وفقا لهذه الصيغ، سيبدو متخما بالشاعرية تجاه أم “الزين” منذ (أمي ربّة حزن هي الأخرى ص18). - سردية: مؤطِّرة.. أحداث حاضرة في “عمّان” خلال التسعينيات خاصة بأبيه “سعيد مسعود” وحده (أي: فردية). - مؤطَّرة: أحداث ماضية في “بغداد” خلال الثمانينيات عامة للأب وذويه (أي: جمعية).