علي وجيه
لا أعلمُ لِمَ يتنكّرُ الأديبُ العربيّ عموماً، والعراقيّ خصوصاً، لقراءاته الأولى، من سردٍ وشعرٍ أو حتى قصص أطفال، فكلّ سرديات القراءة العربيّة تقريباً، تجعلهم يأنفون من المرور على المنفلوطي، جرجي زيدان، علي أحمد باكثير، مروراً بمحمّد عبد الحليم عبد الله، أو يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، وكأنهم هبطوا من بطون أمّهاتهم ليسقطوا في نعيم المدارس النقدية الحديثة.
لا أعلمُ في أيّة ظهيرة قادني الفضولُ لرفٍّ طويلٍ جداً، في مكتبة المنزلِ، كان يحملُ اسم مؤلّف واحد: إحسان عبد القدوس، ولا أعلمُ لِماذا دائماً ما تكون ظهيرة المرء مليئةً بالاكتشافات، وكأنها وقتٌ لكلّ جديد، اكتشاف الجسد، والسيجارة الأولى، والفيلم الإباحيّ الأول، وغيرها من لذائذ محرّمة تمحوها الأوقات الأخرى.
من الطبيعي كانت كتب إحسان لتجتذب طفلاً مثلي، وأعني بطبعات (مكتبة مصر) تحديداً، فالأغلفة ملوّنة، وعليها رسومٌ لنساء ورجال، شخصيات بكاريزما واضحة، بملامح حادة، وأخرى أنثويةٍ ذائبة، ومع تقليب الكتاب، ستجدُ عدّة تخطيطاتٍ رائعة، ستقودك للهواية العظيمة الأخرى التي تستهوي الأطفال، وضع الورق الخفيف ونقلها بالرصاص، اعتماداً على ظلّها.
كانت معضلة القراءة تتجسدُ آنذاك بأن الطفل لا يفهمُ ما مكتوب في الكتب الأخرى، لكن ما يقوله إحسان مفهوم، وليس مفهوماً حسب، بل هو ممتعٌ بشكلٍ مبالغٍ به، ويجعلك تبتسم، إي والله، بتوصيفاته الساخرة، والدقيقة، ثم يجعلك تدمع بقصةٍ ثانية.
بعد كلّ قراءة، تكتشفُ أنّك تعرفُ ما يحدثُ خارج المنزل بشكلٍ أوضح، فإحسان يُعالج موضوعات الأسر المصرية، كلّها، لم يترك شيئاً في المجتمع إلّا وناقشه، وعرض وجهة نظره وفقها، مع عناية بالطبقة البرجوازية الصغيرة، والمتضررة من ثورة عبد الناصر، ثم التحوّلات العنيفة التي طرأت على المجتمع المصري آنذاك.
يقدّم عبد القدوس دفقات ذاتيّة عنيفة في أثرها، وهادئة بتصديرها، نجح معي - أنا الطفل المراهق آنذاك - بإفهامي أنّ الجنس سلوكٌ بشريّ طبيعيّ وحاجة مثل الطعام والشراب، وهذا إعجازٌ في المجتمع إلى حد كبير، وأن أفكّر في أحوال الآخر قبل الحكم عليه.
تلك العتبة المضيئة التي تصدّرت “البنات والصيف”، قوله “لا تسألوني، اسألوا الظروف»!
عبد القدوس يعتني بقارئه، يجعله يستريح، ليس مهماً عنده أن يكتب سرداً عالياً، لكنه معنيٌّ بأن يكتب عن الذات المعذّبة، امرأة كانت أم رجلاً، طفلاً أو مراهقة، أو عجوزاً.
دوماً ما أُجيبُ أصدقائي الذين يرغبون بأن يقرأ أولادهم ما “ينفعهم”، فأجيب بلا تفكير: إحسان عبد القدوس، لأن ما يقدمه هذا الكاتب، بشكلٍ واضحٍ وجليّ، هو نقلةٌ لفهم المجتمع، بطريقةٍ ابتدائيّة، ثم السلاسة في الكتابة، التي تجعلك تُنهي كتابين له في ظهيرة
ٍ واحدة.
يرى عبد الفتاح كيليطو، أنّ أهمّ ما كتبه إحسان هو (بئر الحرمان)، فيما يشرّح الراحل جورج طرابيشي علاقته بوالدته، المسيطرة، السيدة روز اليوسف، صاحبة المجلة الشهيرة والصالون المعروف، ويتعاطى معه النقاد بشيزوفرينيا عالية: بين مَن يضعه بأعلى الرف وأهمّه، وآخر ينفيه من جنّة السرد العربي، جنّة نجيب محفوظ والطيّب صالح والتكرلي وما سواهم، لكن إحسان، الذي كثيراً ما يُلاعب قارئه يكتفي بجملة “قصصي ليست أحذية، لتناسب البعض ولا تناسب البعض الآخر».
ثمّة آباء للوعي العربيّ، يتسللون عبر الأفلام السينمائية (التي ويا للمصادفة كتب سيناريوهاتها نجيب محفوظ)! والمجلاّت الأسبوعية، والكتب التي تُطبع أكثر من 30 مرّة منذ الخمسينيات وحتى الآن، ومن ضمنهم بابا إحسان، أبو الظهيرة اللذيذة التي لم ينته سحرها حتى اليوم!