لحن الخراب.. أغنيات الموت

ثقافة 2020/02/22
...

د. رسول محمد رسول
 
للشاعر العراقي فاضل حاتم، المولود في بغداد سنة 1963، تجربة شعرية تبلورت في دواوين شعرية عدة وصل عددها، حتى سنة 2019، إلى أكثر من عشرة دواوين، احتلت القصيدة الحديثة فيها مساحة كبيرة، وقد عبَّر عن تجربته الشعرية بإزاء الوجود والعالم والذات الإنسانية.
وفي ديوانه بعد العاشر (أوراق مدينة) يقترب الشاعر من نبض حياة المدينة التي يعيش فيها كما أبناء جلدته من المواطنين، وقد مرّت على تلك المدينة كل ما هو معروف للداني والقاصي من مآسٍ وأحوال غير مستقرة في ظل خسارة الإنسان في المدينة كينونتَه الحقة، فالشاعر لا يعيش في الـ «لا مكان»، ولا في الـ «لا زمان»، بل يعيش في صلب الوجود الحياتي للناس، ويرى ما يراه الناس من صور الخراب الذي راح يحلُّ بالكينونة الحياتية للإنسان في المجتمع حتى أصبح العالم مؤذناً باليأس من استقرار اللحظة الوجودية المصابة بداء العدم.
 
الخواء والدماء
يفتتح ديوان (أوراق مدينة) بقصيدة تحمل العنوان ذاته «أوراق مدينة» هي الأطول بين قصائد الديوان الست والخمسين، وفيها يقول الشاعر صوته في ما مرّ على المدينة وما يزال يمرّ من هيمنة للعسكرة، وسيل للدماء البريئة، وهزيمة للإنسان وهدر لكرامة الموجود الإنساني، وصور البؤس التي تواجه الذوات الإنسانية في المدينة، بل هدر كرامة المدينة والحطّ من قيمتها الإنسانية. يقول الشاعر: «يمضي النهار على سكة خالية، على مدن خاوية بالية».
والخواء هنا لا يعني غياب الناس فيها وعنها، فهي خاوية المعنى والدلالة والمصير الإنساني وقد غاب عنها أيّما غياب، ولذلك نرى المدينة: «تضطجع على ظهرها كعاهرة نسيت زينتها في حفلة ما»! وإذا كانت للمدينة أزقة وشوارع ومنعطفات، فالبرد يغزو الشوارع، الشوارع المبتلة بالدماء، ومن ثم فإنّ «الشوارع هي من حريق»، ولذلك «تخلو من سالكيها»، فحرائق الشوارع وبردها والدماء المسالة فيها ظلماً هي قوى طاردة للروح الإنساني العاشق للمدينة في نهارها ومسائها
وليلها.
إن الذات الإنسانية لا تنفصل عن بؤس المدينة، فهذا النهار «يمضي على سكة خالية، على مدن خاوية بالية كأن الوجوه تنام بأحداقها» حتى أن «سرب ذباب يغطي الجفون فتنبع من شفتيها أغاني السجون ولحن الخراب»، والنهار الماضي على سكة خالية تنام وجوه أهله من الناس في أحداق المدينة، و»الأفاعي بكل الدروب غبار ودخان»؛ فالنهار مغبر يعلوه الدخان بعيداً عن الصحو والنقاء والهواء النظيف، فأيّة مدينة هي؟ وماذا عن الغروب في تلك المدينة؟
في المدن الحيّة يستحيل المساء إلى لحظات من السكينة والسمر، لكنها مدينة الشاعر الخالية ليس مساؤها على ما يُرام، فيأتي «الغروب بحزن اليتامى»، ومن بعيد تلوح في أجواء المدينة المغبرة «أضواء مركبة من بعيد، يحيط بها بضعة من جنود يمرونها قرية خاوية، وكفٌ تشير إلى خربة: هنا بيته، هنا أنزلوه، فيعلو صراخ الثكالى من الأمهات الحيارى فتحنو الضلوع على خشب..».
لقد عمد الشاعر بوصفه ناصاً (Textor) لقصيدته على بنية الحكي سارداً حكاية الضحيّة الذي جاء جثمانه جنازة بانتظار عويل الأم والأب والأخوة والأخوات، وكم أصبح ذلك مكرراً في يوميات المدينة حتى أصبح معتاداً لأهلها، فقد صار النهار “يمضي وراء النهار”!
صليب الشاعر
والشاعر هو الرائي و الشاهد على الخراب في مدينته، ذلك أن «برد الشوارع ينمو على جسدي، يخترق الثياب كأنه قطيع الذئاب العاويات على الطريق»، لا بل خلفه «يحتدم الرصاص وصوت مركبة الجنود، ويصم أضلعي العواء، عواء، عواء» في مدينته المختنقة بالضيم والبؤس والهزيمة، والطريق من أمامي، يقول الشاعر: «تهرب كأنّها سحب الفضاء، وفي جدران الغرفة «مرّت مواكب الزهور الداميات»، فكل الأشياء التي نعتقد أنّها تبعث فينا البهجة كالزهور مثلاً طالما سفكت براءتها دماء تدنّس كرامتها ومصيرها.
ويجعل الشاعر من ذاته الشخصية أنموذجاً أو يجعلها «ذات حالة مسرودة» من حالات المدينة المسروقة في مواجهة السلطة الغاشمة، فالشاعر «يحمل صليبه، يمرّ بباب السلطان، ويشتم أغلى جواريه، يهرب من بطش الجند..» إلى «الشارع المبتل دماءً»، وكان الجلاد يساومه بأن «يفشي أسماء المجموعة كي يطعمه رغيفاً ممزوجاً بالعار، أو سيجارا يطفئه في بؤبؤ عينيه». والسلطان والجُند والجلادون هم سادة القوم في مدينة الشاعر المنتهكة، فعلى ظهره «صدأت ضربات الجلاد»، وراح «يحتضن وجه الغيمة، وأسراب جراد صحراوي يلبد
في الظل». 
مدينة الشاعر «تغتسل صباحاتها بالضوء وتوابيت القتلى»، فلا يوم يمرّ من دون قتل وقتلى في مدينة لا يبارحها الموت لحظة، تلك المدينة التي يمرح بها الدكتاتور الجديد شيطاناً لا «يجرؤ أحد أن يضع عينه في عين إله بشري، من يجرؤ على صفع التمثال بداخله، لا أحد في هذا العالم يشرب دمه إلّا نحنُ، لا أحد يأكل لحم أخيه إلا نحنُ». 
وبهذا صار الإنسان في مدينة الشاعر آكلاً لحم أخيه الإنسان فضاعت الأخوّة أدراج المسخ البشري للبشر، وتلك غاية النزعة التدميرية التي وصلت إليها مدينة الشاعر تلك التي يعيثُ الشيطان فيها، ففي نشرة الأخبار نسمع مثلما نشاهد بأن طفلة «سقطت، وتناثرت كتبها المدرسية صاعدة إلى الله بأجنحة من نوارس صوفية»، ليرى الشاعر ما رآه، إذ «يخرج من حقيبتها طير أخضر حتى ظننت أن العالم أصغر من سطر تكتبه في عين الدفتر»، فحتى الطفولة لم تنجُ من عذاب المدينة التي بات همّها حرق الأخضر واليابس فيها، إذ يبدو «الدخان من بعيد، الدخان الأسود الكثيف» أنه «لا يوحي بقطارات قادمة»، ذلك أن «المدينة تحترق»، ولا منجي من دوّامة اليأس سوى امرأة عجوز «تنتظر مطراً يغسلُ ما علق بها من كذب التاريخ»، لكنها عدماً تحاول، فثمَّ «رجل يخرج كل يوم على بغلة عوراء، يمتص دماء الفقراء، يبحث في وجوه الناس عن دجال أعور يشبهه»، وما أكثر الدجالين في مدينة الشاعر، أولئك الباحثون عن أشباههم، لا سيّما أن بوصلة المدينة فقدت عذريتها عندما مات الإنسان فيها، وطارت روح الطفولة إلى ربّها، النسوة الثكالى غادرن إلى صوامع البكاء والألم ليبقى الشاعر رائياً مأساة ما يجري
في مدينته.