آراء نقدية في كتاب (نقد العقل العربي)

ثقافة 2020/02/23
...

عفاف مطر

 
 
موسوعة (نقد العقل العربي) لمحمد عابد الجابري، تكاد تكون الموسوعة الأكثر إثارة للنقد والترحيب عبر الخمسين سنة الأخيرة، ليست فقط لأنها رفعت المستوى الحواري حول التراث العربي الإسلامي، من السجال الآيديولوجي الى النقد الفلسفي العميق، ولكن لأن نظرة الجابري مثلت تحدٍ لمشابهيه كما لمخالفيه. يقول الجابري: "نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي". 
بعض المفكرين والنقاد، رأوا أن الجابري أراد نقل الفكر العربي من التفتت الى الوحدة، وردوا على الانتقادات السلبية التي واجهها، بإن موسوعته هذه التي تقع في ثلاثة اجزاء، هي بمثابة الضربة الأولى لفرشاة الرسام حين يرسم لوحة أو بورتريه، وان اعتقاد بعضهم أن هذه الضربة هي اللوحة بشكلها النهائي هو من أفسدها، وليس للجابري ذنباً فيها. يرى رضوان السيد استاذ الدراسات الاسلامية، أن مشروع الجابري والمادة الهائلة التي استعملها، ومحاولة الجابري أن يحيط بجميع النواحي الفكرية والثقافية لهو جهد هائل. الحققية أن الجابري حفر عبر موسوعته في التراث العربي والاسلامي، بطريقة شبهها بعضهم بالطريقة البوليسية، فهو يتساءل هنا، ويجرب هناك، يخطأ حينا، ويصيب أحايين أخرى، وطريقته الساحرة والبسيطة التي استعملها في طرح أفكاره سحرت أجيالاً من القراء العرب منذ ثمانينيات القرن الماضي لأنه كان يستهدف الجمهور بالدرجة الأولى فكانت موسوعته بمثابة مشروع تنويري، لذا كانت كتاباته أقرب الى هذا الجمهور من أرغون والعروي. الجابري يرى أن هناك هوة كبيرة بين حضارة شبه الجزيرة العربية قديما وبين الحضارة الآن، وهذه الهوة يصعب ردمها الّا بتجاوز الكثير من الموروث بأدوات الآخر –يقصد هنا الغرب- كجسر للنهوض، مع الانتباه الى بعض الاطروحات التراثية التي احتفى بها الجابري واعتبرها لحظات تنوير ضائعة يجدر استردادها والبناء عليها. أمّا ما قاله الجابري نفسه لغرض التوضيح والشرح "أنا لست قارئاً تراثياً للتراث، بل قارئاً حداثياً للتراث" إذ إن القراءة التراثية للتراث هي قراءة تمجيدية وفخرية، في حين الاعتبارات التي اعتمدها الجابري في قراءته الحداثية هي اعتبارات تحليلية ونقدية وتقيمية. ويدافع الجابري عن موقفه هذا قائلاً: "لا يمكن تبني الماضي ككل لأنّه ينتمي الى الماضي، ولأن الكثير من العناصر المقومة لذلك الماضي لا توجد في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو حضورها نفسه في الحاضر"، وبالتالي، الجابري لا يرفض التراث ككل لنفس السبب؛ فهو إن شئنا أو كرهنا، مقوم أساسي من مقومات الحاضر، وتغيير الحاضر لا يعني البدء من الصفر. سؤال النهوض الحضاري شغل الجابري كثيراً، ومن واقع خلفيته العملية كناشط سياسي في الاتحاد الاشتراكي في المغرب، وكمفكر جريء ومباشر خاض معركة اعادة دراسة التراث بكل ما يملك من أسلحة التحليل والنقد والمساءلة، وانتقد القراءة السائدة للتراث؛ وهو يدعو الى استعادة نقدية ابن حزم، وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون؛ لهذا لا يمكن أن نقول أن الجابري في دعوته الى نقد العقل العربي قد دعا الى القطيعة التامة مع التراث، كما لم يكن يؤمن بوأد التراث كما ادعى بعضهم عليه، بل دعا الى التخلص من القراءة التقليدية له واستبدالها بقراءة حداثية. كما اتخذ الجابري موقفاً صارماً من الصوفية لأنها برأيه ألغت العقل والمنطق، واعتبر العقل الصوفي عقلاً مستقيلاً وقد كان واضحاً وجريئاً في رأيه هذا. ربما لمقارنة الجابري بين العقلية الغربية التي يؤمن بأنها عقلية واقعية ديناميكية وتجريبية، والعقلية العربية التي يؤمن بأنها، عقلية تعتمد وتتمحور حول اللغة والأخلاق، وانحيازه الواضح والصريح للعقلية الغربية، جعله أكثر عرضةً للانتقاد، وفسر منتقديه انتقادهم له، بأن الحضارة العربية الاسلامية اعتمدت على القرآن والكثير من الشعوب العربية وغير العربية التي دخلت الاسلام فهي لا تخص العرب وحدهم، وهناك من رأى أن نظرة الجابري هي نظرة استشراقية عنصرية ولا يحق له أو لغيره أن يقول أن هناك شعوباً لا تهتم الا بالوجدانيات واللغة وشعوباً أخرى تهتم بالعلم والعقل والفكر، ودللوا على ذلك بأن البابليين ومن سبقهم وهم اصحاب علم واختراعات عظيمة وان لم يكونوا عرباً إلا أن العرب هم ورثتهم في هذا الإرث العظيم.
ومن جملة الانتقادات التي طالت الجابري المغربي الأصل، هو انحيازه للمغرب العربي، إذ إنه يؤمن بأن المغرب العربي أكثر عقلانية من المشرق العربي، وقد اختلف الكثير من المفكرين معه في هذه الفكرة، ومن أبرزهم مواطنه المغربي أبو يعرب المرزوقي أستاذ الفلسفة والباحث في الفكر العربي، وكانت حجته أن التصوف ولا سيّما المتشدد الذي وصفه الجابري باللاعقلاني انطلق من المغرب، وأهم أعلام التصوف هي من المغرب العربي على رأسهم ابن عربي. 
أفكار الجابري رفضها اليمين المتطرف لأنه وجد فيها نسفاً للحضارة العربية، كما رفضها اليسار المتطرف لأنه وجد فيها مجاملة للعقل المتخلف. ولا يسعنا في النهاية إلّا أن نذكر أهم منتقديه على الأطلاق وهو جورج طرابيشي الذي ردَّ على الجابري بكتاب (نقد نقد العقل العربي) الذي نال شهرة كبيرة بين الجمهور، وكان لشدة اختلافه مع الجابري يفرد من 20 – 30 صفحة لشرح فكرة واحدة فقط. أفكار الجابري لم تسلم من انتقاد العروبيين الذين شككوا 
بعروبيته. 
موسوعة نقد العقل العربي للكاتب والمفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري على الرغم من كل ذلك، تعد من أهم المشاريع الفكرية التي طرحت في القرن العشرين والتي ما يزال تأثيرها في قرننا هذا، ويكفي أنها حركت الماء الساكن، وهذه هي وظيفة المفكر الحقيقي، والتي نحن بأمس الحاجة اليها في يومنا 
هذا.