ماذا أبقينا لأرواحنا ؟

ثقافة 2020/02/23
...

ياسين طه حافظ 
 
قدر ما نتلهف، نجهد سعياً لتذليل كل عقبة، لرحلة ترينا عاصمة دولة من عواصم العالم، قدر ما تنكسر الاندفاعة وبنوع من بدء الانطفاء نتباطأ إذ نرى الكتل البشرية وجوهاً وثياباً وسيقان متسارعة تتخاطف بلا هوادة. ومهما كنت انساناً رقيقاً سترى شراسات قابعة في وجوه العابرين المتسارعين للانفاق أو أولئك الذين استطاعوا، وما صدقوا، ان يتخذوا لهم مقاعد في الباصات. وان كنت مراقباً منتبهاً سترى ما يربط وما يتحكم بهؤلاء "البشريين" ويحدد كلامهم والسلوك. وأن وحدات من الكلام دائمة الحضور وكأنهم محكومون بها ويدورون حولها. 
الانسانية قائمة على هذه المتشابهات وأمثالها. والغريب أنهم لا ينسونها في أيام الآحاد أو الجمع وهم في مناسبة لينسوها! وحينما تبدأ في اخراج اوراق نقودك من حافظتها، ورقة بعد أخرى، تشعر بعد أيام بأنك تُستَنزَف وأن شجرتك تنفض مضطرةً أوراقها ولم ترَ بعد الربيع. بعد أيام تحاول تلم شتاتك، أن تحصل مثلاً على كتب أردتها، أو جديدة أثارتك موضوعاتها وأنك اشتريت ثياباً وبضع هدايا لترصفها في حقيبتك. لكن هذا لا يخفي ان البهجة تقل كل يوم. ونشاطك يتسرب. وظل اكتئاب يلامسك ويترك 
أثراً.
المدن تفقد سحرها بعد أيام، ربما أدامته أمكنة معزولة فيها أو تخرج مباهج صغيرة كامنة من تاريخها. وإن كنت ذا مال فستجد فرصاً تثأر فيها لنفسك ولأيامك الضائعة. لكنك أمام خطر مؤكد يعرفه الناس في السفر. 
ذلك هو تسرب النقود فيتحكم الفراغ الذي يتركه اختفاؤها. النقود تختفي بعدد ما تخطو وترى. قد تتمكن بطلاقة روحك ومنظر وجهك ان تحول واحداً من أولئك الذين ظهروا أول الكلام. 
فبعد ترك الاندركراوند، رأيت على الرصيف صديقاً ينتظرني. هو شيء من بهجة. رأيته واقفاً معه صديقته أو زوجته، حتى الآن لا أدري ولم أسأله، لكنه قدمها لي : "ميري" ! 
المهم اننا اتخذنا زاويةً في مطعم قريب صمته مريح ننظر للعالم من وراء زجاج. ولأنه يقع في شارع فرعي، فالزحام في الشارع قليل ومن يمرون هم غالباً أولائك العائدون الى بيوتهم او الخارجون من بيوتهم الى موعد، حاجة أو عمل. 
كان حديثاً أولاً عن كتاب ألفه مضيفي فهو قبل لقائنا كان في دار نشر للتباحث عنه. تركنا الادب وتنطعات الكتاب والشعراء، ليكون الحديث عن مستقبل أوروبا، عن شقاء الشعوب وغنى بلدانها، عن تحولات الثقافة على حساب الجماليات، عن انشغال الانسان بالخبز واذا ما كانت القيم الكنسية ما تزال مسعفةً أو ان افتقادها يزيد من كآبة البشر على الأرض. وانتهينا بمدى حقيقة الايمان وراء الطقوس. 
هنا التحقت بنا ميري التي لم تصحبنا في تنقلاتنا بين المواضيع الشائكة، إذ قصدت انجاز لقاء لتلحق بنا من بعد. عرفت الآن انهما على وشك زواج. عرفت ذلك حين وصل الحديث الى تفكيرهما بالهجرة الى كندا! 
ماذا يجري والى أين يتجه العالم؟ في كل بلد تجد من يفكر بالهجرة من بلده. لماذا خسرت الناس اطمئنانها وقناعاتها وأن احلامهم بالافضل تعني ضيقَ ذرعٍ بحاضرهم. لا عيش مقنع ولا هدوء. فأين مكان العواطف والجمال في هذا المعترك الذي يورث بؤسه للجميع؟ 
أصعب ما يقوم به الناس هو معاناتهم غير المجدية في إعادة الأمل. العيش غير آمن والعالم يزداد تعقيداً وهيمنات وتجارة سلاح وعملاء ومرتزقة اصنافاً: مقاتلين، كتاباً، اصحاب صحف، دعاة يرتدون أقنعة تحرير أو ايمان. 
ذكرني ذلك بطيارين ألمان اسقطت طائرتهم على حقول "ويتشاير" البريطانية فوجدوهم مرتدين ثياب راهبات وقسس. لكن هذا لم يدفع عنهم إلقاء القبض. جهد ابدال البزات على عجل لم ينفعهم.
ميري، الزوجة قريباً، كانت صامتة تصغي. أرادت، وقد وفر لها جمالها نفوذاً، بلباقة امرأة ذكية ان تقول رأياً أو تغير اتجاه الكلام."هل ترون طوفان الهموم الى أين وصل في حياتنا؟ " وبابتسامة حلوة قريبة من الفرح، خاطبتنا: "ماذا بقي من الوقت للحب، لعواطفنا، لأن نمنح أرواحنا شيئاً تحتمل به العالم ونستطيع العيش في الدخان والفوضى؟  لا أحد يسأل، كل ينظر لساعته خشية ان يفوته شيء ان تأخر دقائق اخرى.