إنَّ التوظيف الحسّي/السمعي كان حاضراً في العديد من قصائد (بدر شاكر السيّاب) إذ يفتتح قصيدته (في السوق القديم) بجوٍّ هامس مشحون بدلالات الاغتراب:
الليل، والسوق القديم
خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين
وخطى الغريب وما تبثُّ الريح من نغم حزين
في ذلك الليل البهيم.
الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين؛
والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب
-مثل الضباب على الطريق-
من كل حانوت عتيق،
بين الوجوه الشاحبات، كأنه نغم يذوب
في ذلك السوق القديم. فعلى الرغم من أنَّ هذه القصيدة ابتعدت عن خطابية النسق الشفاهي بتعددية الأصوات والربط الرؤيوي العميق بين الذاتي والموضوعي، إلا أنها لم تبتعد كثيراً عن النسق الذي ولد في ظل الخطاب الإعلامي، بوصفه جزءاً من السياق الثقافي، وقد اخترناه للتدليل على أنَّ مظاهر النسق ليست بالضرورة أن تكون عيوباً أو مثالب، إنما هي أنساق بنائية تحدد فعاليتها في ضوء المعالجات الرؤيوية والأداء الشعري، فالتكرار حاضر في المقطع الأول، وكذلك في المقاطع الأخرى، والسردية التقريرية حاضرة بوضوح في المقطع الثامن حتى المقطع الحادي عشر، على شاكلة ما جاء في المقطع التاسع: أنا من تريد، فأين تمضي؟ فيمَ تضرب في القفار مثل الشريد؟ أنا الحبيبة كنت منك على انتظار. أنا من تريد ..» وقبّلتني ثمّ قالت – والدموع في مقليتها- « غير أنك لن ترى حلم الشباب أمّا الصور الكنائية فقد أملتها الطبيعة السردية للنص، إذ ترشح عنه متن حكائي واضح الملامح لا يحتمل الاستعارات البعيدة المعقدة، أو الصور الإيحائية المركبة، بل إنَّ أسلوب التشبيه الذي هو رديف الكناية كان سائداً في العديد من الصياغات مثل: (مثل الضباب، كأنه المغيب، كالظلال، مثل أمساء الخريف، مثل أوراق الخريف، مثلما غاب الشراع، كالمنزل المهجور، كالسلم المنهار) ومع الإيغال في السردية التقريرية التي اتخذت مساراً حوارياً تختفي التشبيهات بأسلوبها التقليدي باستثناء عبارة (مثل الشريد) في المقطع التاسع. وبخصوص الربط بين الذاتي والموضوعي فإنَّ الربط كان عرضياً وسطحياً في نص (الكوليرا) لنازك الملائكة إذ جاء في المقطع الأخير بعد تغيّر وجهة الخطاب، كأنَّ الشاعرة أرادت للأنا أن تشكّل ذروة النص واحتواء مدلوله الاجتماعي بصورة مباشرة «يامصر شعوري مزّقهُ ما فعل الموت» في حين جاءت العلاقة بين الذاتي والموضوعي في نص (في السوق القديم) مبنية بناءً عضوياً عميقاً، إذ يتنامى الذاتي مع الموضوعي في تبادلات دلالية، فكان توظيف التفاصيل بمثابة المعادل الصوري الذي يعكس قلق الذات وتجليات الأنا في وحدتها واغترابها وحنينها، وكأنَّ وراء النص قصدية في توظيف الاستعارة الصورية على الطريقة السينمائية، وهذا ملمح إضافي يؤكد أنَّ وسائل الاتصال الحديثة شكّلت جزءاً حيوياً من نسيج السياق الثقافي، لذلك أصبح من الطبيعي أن تتسرب بعض أنساقها إلى تقنيات البناء الشعري الذي بدأ يخرج من أفقيته الشكلية المحكومة بالإطار الكمّي للتفعيلات والجزالة اللفظية والرتابة الإيقاعية للقافية باتجاه الأنساق التعبيرية. فقد رسم النص صوراً مكانية مختلفة، هي في الأصل إسقاطات الذات على المكان بعملية مماهاة تترجم انفعالات الشاعر إلى صور مستمدة من موجودات السوق وأجوائه، فمنذ المقطع الأول يمازج النص بين غربة الشاعر والليل وصوت الريح وشحوب المصابيح وغمغمات العابرين ووجوههم الشاحبة ... إلخ، ويستمر في المقطع الثاني ليحوّل الغربة الذاتية إلى شعور جمعي، أو ظاهرة اجتماعية «كم طاف قبلي من غريب/ في ذلك السوق الكئيب/ فرأى، وأغمض مقلتيه/ وغاب في الليل البهيم..» ثمَّ يوظف حركة الريح والدخان وفتور النفس واكتئابها وصدى الغناء الذي يثير حنين الشاعر للقرية بفضائها الطبيعي المفتوح، ويوقظ حلمه بالرحيل:
والريح تعبث بالدخان...
الريح تعبث، في فتور واكتئاب، بالدخان،
وصدى غناء..
ناءٍ يذكّر بالليالي المقمرات وبالنخيل،
وأنا الغريب... أظلّ أسمعه وأحلم بالرحيل
في ذلك السوق القديم.
ومن الجو العام ينتقل النص إلى التفاصيل حيث البضائع والظلال والجدران والرفوف والأكواب، وفي المقطع الرابع تتحول المناديل إلى تلويحة وداع في عملية استدراج للعلاقات الوظيفية والتداولية للمناديل، حيث الدمع والدم، ثمَّ يتواصل التماهي في المقطع الخامس مع الشموع «وأنت ايتها الشموع، ستوقدين / في المخدع المجهول، في الليل الذي لن تعرفيه». وعلى الرغم من تركيبة البناء الصوري لهذا النص إلا أنه لم يخلُ من التراكيب الجاهزة وتكرارها بألفاظ مختلفة مثل (السوق القديم، نغم حزين، الليل البهيم، الوجوه الشاحبات، السوق الكئيب، الليالي المقمرات، الضوء الضئيل، اللحن الرتيب، ليلة ظلماء، الدمع الثقيل، العطر المضاع، الدم الجاري، الظلال الراعشات، المخدع المجهول، ليلة قمراء، السعف الثقيل، الحلم الطويل، المنزل المهجور، السلم المنهار، الليل الكئيب، المصابيح الحزانى، النائي القريب، الحلم الحبيب، الرجل الغريب، العبد الاسير، الدرب البعيد ) إنَّ هذه الجمل المركبة تركيباً نحوياً بسيطاً مؤلَّفاً من موصوف وصفة معرفتين على الأغلب، تُغلِّب السمة الوصفية للنص، تسهم بإضعاف حركية الصورة، فصفة القديم التي أسندت للسوق هي صفة زمانية أسندت إلى مكان، والسوق هو مظهر من مظاهر المدينة أكثر منه مظهراً من مظاهر الريف أو البادية، وهو مكان إشباع الحاجات والمتاجرة والمضاربة والمساومة والربح والخسارة، ومرجع العلاقات المادية المجردة من العواطف والمشاعر، وقد أراد به الشاعر أن يكون كناية عن المدينة التي وجد نفسه غريباً فيها، وهذا انعكاس لما شاع في الأدب الغربي من نزعات مضادة للمدينة، إلا أنَّ الشاعر هنا أراد تحقق الاغتراب المزدوج- المكاني والزماني، فهو مغترب بإزاء حداثتها المادية، ومغترب بإزاء الماضي الذي يشكّل روحها، هذا إذا ما وضعنا جملة «في السوق القديم» في سياقها الثقافي المساعد على تأويلها. لكنَّ تكرار صياغتها اللغوية بهذا الزخم يحوّل المكررات إلى صدى يتضاءل كلما ابتعد عن المركز، أو إلى قالب جاهز تصب فيه الكلمات، فتعبيرات: (نغم حزين، الليل البهيم، الوجوه الشاحبات.. إلخ) بقيت في حدود دلالتها المعجمية التي هيمنت عليها دلالات الحزن والكآبة والسكون، مقابل دلالات الحركة والابتهاج التي تضاءلت لتجسّد مناخ الرتابة الذي جسد مضمون النص.