بين مرجعيات ثلاث

الصفحة الاخيرة 2020/02/24
...

 جواد علي كسّار
عاش قريباً من مرجعيات ثلاث وبقي متميّزاً، فقد كان في قلب مرجعية والده السيد محسن الحكيم بخطّها الإصلاحي، لكنه اختار التغييرية والمنهج الانقلابي الشامل. وكان من ركائز مرجعية السيد محمد باقر الصدر، ثمّ ما لبث أن خرج من نظرية الحزب الإسلامي، وتحفّظ في فكره السياسي باكراً، على نظرية أهلية الحكم في عصر الغيبة استناداً إلى الشورى، لعدم كفاية الأدلة برأيه؛ أخيراً جعلته أوضاع المهجر وتقلبات المعارضة في صميم مرجعية السيد الخميني، لكنه فاصلها في نظرية الحكم، وتحجيم نفوذ ولايتها، بتكييف ذهب فيه إلى أن لكلّ بلد خصوصيته، ومن ثمّ له مرجعيته السياسية التي يختصّ بها. هذا هو السيد محمد باقر الحكيم، بتصوّر مكثف ربما جاء مختزلاً.
منذ أن خرّ شهيداً في محراب الصلاة أوّل رجب عام 1424ه بمدينة النجف الأشرف، بعد خمسة أشهر من سقوط النظام المباد، وأنظار الباحثين قد اتجهت إلى فكره القرآني، إذ تابعتُ ما يُقارب العشرين أطروحة حول هذا الجانب. وهو أمر حسن، فللسيد الحكيم عناية عريقة بالقرآنيات، امتدّت لتستوعب أبرز مفاصلها في علوم القرآن، ومنهجيات التفسير، والتفسير نفسه، فضلاً عن مفاهيم القرآن، وما يُثار من شبهات عن كتاب الله. لكن من وراء الحكيم تأريخاً لا يزال مخبوءاً لمحطات بارزة من تأريخ المعارضة العراقية ونشاطها، ولاسيّما بعد عام 1991م، حين اتجه لإسقاط النظام والتعامل بواقعية مع الإقليم والقوى الدولية، المؤثّرة في الملف العراقي. وهذا جانب قلما وجدتُ من يسلّط الضوء عليه، إذ لا تزال ملفاته مؤصدة، تزداد معلوماته شحة بمرور الزمان، وغياب الشخصيات المؤثّرة عن المسرح.
أضف إلى ذلك الجهد المتميّز لشهيد المحراب في الحفاظ على الخصوصية العراقية، والهوية الوطنية، ومرجعية الشعب في اختيار النظام السياسي، والفلسفة السياسية للحكم، والدولة العصرية التي بشّر بها، ودعوته إلى جهاد الأمن والبناء، وغير ذلك إلى عشرات الآراء والمقولات، التي لم تأتِ عفو الخاطر، بل رشحت عن نظرية فكرية (كلامية) وفقهية متكاملة لعمله السياسي.
قد لا أبالغ إن قلتُ إن خطابات الحكيم ومحاوراته وآراءه التي أطلقها بين دخوله البصرة يوم السبت 10 أيار 2003م، إلى خطبتي يوم استشهاده الجمعة 29 آب 2003م، تعدل بقيمتها الفكرية والتوثيقية في الحياة السياسية العراقية، ما عرفناه عنه خلال أعوام مديدة من حياته، وتمنحنا نافذة مكثّفة على نظريته السياسية.  من ذلك مثلاً، قوله: «نريد أن نبني دولة عصرية بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى؛ دولة تعرف مفاهيم الإسلام وجوانبه الروحية»، وقوله: «نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، نريد حكومة ديمقراطية، نريد حكم الشعب»، وأيضاً: «نريد الاستقلال ولا نريد حكومة مفروضة». في خلاصة مركزة تنتهي نصوص الحكيم إلى إيمانه بعد التغيير، بنظام حكم ديمقراطي دستوري، تُتداول السلطة فيه سلمياً عن طريق الانتخابات، بإدارةٍ لا مركزية بما لا يركز السلطة وثروات البلد بيد أقلية، أو يرهن مقدّراته تحت تسلّط حكم حزبي أو عسكري أو عشائري أو طائفي أو عنصري أو مناطقي.