الرؤية الدستورية لحرية التعبير عن الرأي

العراق 2020/02/24
...

القاضي ناصر عمران الموسوي
الحرية رحلة استكشافية لمساحات الانعتاق التي لا تخضع لمديات زمنية تتطور ولا لحدود مكانية تتشكل ، ليس لها جغرافية ولا تاريخ، لا يقولبها الموطن فتكتسي بجلبابه  ، خارج المدى لكنها صنو الذات وطاقة تنفسها الوجودي ، قد تكون  حالة نفسية واجتماعية تنتاب الفرد 
وتجعله يشعر بأنه متحرر من القيود والمحرمات والنواهي التي يفرضها المجتمع عليه منذ الولادة  كما يراها (ابو حامد الغزالي ) او قيمة اجتماعية اساسية قادرة على القيام بما تريد من دون عوائق او قيود يضعها النظام العمراني البشري كما يصورها  (ابن خلدون ) والخلاصة فيها انها مرادفة  الفرد منه واليه ، ان حرية  الرأي والتعبير عنه منتج اجتماعي وسلوكي وعلائقي مرتبط بحركة الراهن الحياتية ومكفولة قانونا ضمن الحدود الدستورية المنتشرة في نصوص الدساتير العالمية ومنها الدستور العراقي الخارج بكيان الدولة من مرحلة الاستبداد والدكتاتورية الى مرحلة النظام الديمقراطي والذي تتعكز نصوصه على ضمانات الحقوق والحريات والتي تضيق  وتختلط بحيث يبدو للقارئ ان الحق والحرية مترادفان في حين ان الحق واجب بينما الحرية حق الاستخدام او ترك وهو الامر الذي يجرنا الى المعنى التفسيري لحرية التعبير ومنع التمادي في تجاوز حرية التعبير للحقوق الاخرى  وان المادة (38) من الدستور حين ارادت فرض الحماية الدستورية لحرية التعبير عن الرأي  استخدمت عبارة ( تكفل الدولة ، بما لا يخل بالنظام العام والآداب :أولاً:- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. ثانياً:- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً:- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون.) وعبارة تكفل ولم يذكر ان حرية التعبير مصانة وهو ما يجعل  النص الدستوري مقيدا بحدود تنسحب على حرية التعبير عن الرأي  فقيد النظام العام والآداب التي تجعل التعبير عن الرأي في حالة موائمة مع طبيعة النظام العام والآداب والتي تفتح الباب على مصراعيه عند الحديث عن قيود حرية التعبير عن الرأي ، فحرية التعبير عن الرأي مباحة بكل الوسائل المتاحة لكنها محددة بمفهوم مشروعية الوسيلة وطبيعة الرأي فلا اشكال بماهية الوسيلة ونوعها وطريقة التعبير عن الرأي ، لكن الراي بحد ذاته والتعبير عنه كسلوك واقعي ظاهر يخضع لحدود النظام العام و الآداب وهو ذات القيد على حرية الصحافة والطباعة والاعلان  والاعلام والنشر كما هو الحال في حرية الاجتماع والتظاهر السلمي  على ان يتم تنظيم ممارسة هذه الحريات المكفولة من الدولة ككيان مؤسساتي تكون الحكومة جزءا من هذه المؤسسات .
وبالرغم من طرح مشروع  قانون لحرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي الا ان مشروع  القانون اثار الكثير من الجدل داخل المؤسسة التشريعية ليعود الى اروقة المناقشات مجددا ،وكلنا امل ان يتم طرح مشروع قانون يعزز حرية التعبير عن الراي والصحافة والاعلام والاعلان والطباعة والاجتماع والتظاهر السلمي ضمن متبنيات النظام الديمقراطي  لأهميته في ايجاد تنظيم قانوني لممارسة هذه الحريات التي
تعبر عن الآراء في مجمل نواحي الحياة والمساهمة الجادة للمواطن في صنع نظامه الديمقراطي  المؤسساتي ،ان التظاهرات التي شهدها العراق بعد سقوط النظام السابق وحتى احتجاجات تشرين الاول  هي مران حقيقي لبلورة مفاهيم حقيقية وجديدة لدور المواطن في صنع مستقبله ورؤيته لطبيعة النظام القانوني والدستوري الذي يضمن له حقوقه وحرياته ، فحرية التعبير عن الرأي مكفولة للعراقي وغير العراقي الموجود في العراق كذلك حرية الصحافة والاعلام والاعلان والطباعة فالتقدم التكنولوجي ادى لان تصبح الصحافة  والاعلام من اهم الوسائل المؤثرة في الرأي العام ووسيلة مهمة من وسائل التعبير عن الرأي ونشر الفكر ضمن خطاب منهجي يرتقي بالمواطن والوطن ويحدد عالميته من خلال قدرته على فهم وتوظيف اليات تكوين الرأي العام  والتأثير فيها ، ولذلك عرفت  الصحافة بالسلطة الرابعة وهي سلطة المراقبة بعد الحصول على المعلومة وتقديمها الى الرأي العام وهي المصلحة الاجتماعية والانسانية  وفي الوقت الذي يشكل فيه  الاعلام والصحافة دورا مهما في بناء وتطور المجتمع فانه في الجانب الاخر قد يكون عامل هدم وزعزعة واستقرار المجتمع حين تكون غايات وهدف الوسائل الاعلامية والصحفية تحريضية تسيء الى الوطن والمواطن وحرياتهم وحقوقهم والامر برمته بحاجة الى تنظيم  قانوني للعمل الصحفي والاعلامي بشكل يسهم في تشخيص الرسالة الاعلامية والصحفية البناءة عن تلك التي تسعى الى التخريب والتحريض على العنف والكراهية وكل ذلك ضمن الالتزامات الدستورية والقانونية التي يتبناها العراق دوليا وداخليا فالعراق من الدول الموقعة على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 (ICCPR) والتي  تنص المادة 19 منه في بندها الثاني على أن “لكل شخص الحق في حرية التعبير” بما في ذلك “حرية التماس المعلومات والأفكار من جميع الأنواع وتلقيها ونقلها من دون اعتبار للحدود سواء بالقول أو الكتابة أو الطباعة، في شكل فني أو بأية وسيلة أخرى
يختارها”.
كما أن أي تقييد لهذه الحرية أو “حرية الاجتماع السلمي” (المادة 21) أو “حرية تكوين الجمعيات” (المادة 22 البند الأول)، لا يحدث إلا للضرورة القصوى وبداعي الحفاظ على “الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة” (المادة 19 البند الثالث والمادة 21 والمادة 22) أو في حالة حرية الاجتماع أو تكوين الجمعيات لغرض “حماية حقوق الآخرين وحرياتهم” (المادة 21، والمادة 22 البند
الثاني). ان الحماية القانونية لحرية التعبير عن الرأي في الدستور العراقي هي ضمانة دستورية  بحاجة الى منظومة متكاملة تبتدأ من تنمية توعوية ثقافية تؤكد ان الحقوق والحريات الواردة في الدستور العراقي هي عقائد انسانية لابد من الايمان بها كمعطى اجتماعي وثقافي وترسيخها في الذهن الشعبي وتنظيمها قانونا كمنتج مؤسساتي ليشعر المواطن بان النظام الديمقراطي نظام ممارسة وسلوك يومي واجتماعي وثقافي واقتصادي وقانوني بثنائية المواطن الصانع  للسلطة والمؤسسة المنتجة للدولة .