«الصرخـــة» تفقــد ألــوانهــا

ثقافة 2020/02/25
...

صوفي هايني

ترجمة: مي اسماعيل

خضعت أجزاء من لوحة «الصرخة» الشهيرة للفنان النرويجي «أدوارد مونش» (نسخة سنة 1910) للفحص الدقيق بالأشعة، ووضعت تحت المجهر الألكتروني، واستخدم العلماء أحدث وسائل التكنولوجيا لمعرفة أسباب تحول أجزاء من قماشها من اللون الأصفر- البرتقالي البراق إلى أبيض عاجي. كشفت الأبحاث (التي بدأت منذ 2012 بمشاركة خبراء من نيويورك ومتحف «مونش» في أوسلو) جوانب من الطريقة التي كان يعمل بها مونش، ورسمت خريطة يستدل بها مرممو اللوحات الفنية لمنع تغيرات أخرى، وساعدت مؤرخي الفن لفهم الشكل الذي بدت عليه اللوحة وقت رسمها.

تبعات التحول الكيميائي
تنامى لجوء دارسي الفن إلى المختبرات، لكشف مسار تحولات لوحات القرنين الماضيين، فوضعت لوحات «فان كوخ» تحت المجهر، إذ بات لون «الكروم الأصفر» يميل إلى اللون البني، وتحول جزء من البنفسجي إلى الزرقة. لكن معرفة الدارسين للوحات مونش بقيت أقل من غيرها، حتى جاءت التقنيات الحديثة ومنها (مايكروسكوبات النقل الألكتروني) لتفتح آفاقا جديدة. تقول د. «جينيفر ماس» رئيسة مختبر تحليل الفنون في هارلم، إنّ الدراسة تحت المايكروسكوب أظهرت تراكم البلورات النانوية الدقيقة على اللوحة، وتهالك النسيج في بعض أجزائها. يبحث متحف مونش (بعد تحليل التغيرات) عن أفضل طرق عرض اللوحات، والموازنة بين ظروف الحفاظ وتجربة المشاهدة الكاملة. خضعت خيارات مونش اللونية (كمواد وصيغ كيمياوية) لتحليل كامل، ودراسة أنابيب طلاء كان يستخدمها مونش (وعددها نحو 1400) التي يحتفظ بها المتحف. بمرور الوقت ومع التعرض لمتغيرات الجو، تأكسد كبريتيد الكادميوم الأصفر إلى مركبين كيميائيين أبيضين: كبريتات الكادميوم وكربونات الكادميوم. هذا التحليل أظهر تبعات التحول الكيميائي على لوحات الفن الانطباعي ثم التعبيري، التي أنتجت منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى العقدين الأولين من القرن العشرين، واستخدم فيها الكادميوم الأصفر، وتقدر د. ماس أن نحو عشرين بالمئة منها تعاني تغيرات مشابهة.  
 
آلية تدهور الصبغات
سواء كان البحث التحليلي لأغراض الحفاظ والترميم أو إثبات الأصالة التاريخية، يكشف التحليل عادة عن نواحي في العمل الفني لا تراها العين المجردة، منها- العمر الحقيقي للعمل، ووجود رسومات سابقة تحت السطح الحالي، والعوامل الظرفية المحيطة التي قد تؤدي إلى تلف القطعة الفنية. وهذه الفقرة الأخيرة مهمة بصفة خاصة عندما تتعلق بفنانين عملوا خلال الحقبة نفسها التي عمل فيها مونش، إذ بدأت البحوث الأخيرة بتسليط الأضواء على العوامل المشتركة خلالها. يقول د. «نيكولاس إيستوغ» مؤسس وكبير علماء مؤسسة «التحليل والبحث الفني» لمعالجة وصيانة الأعمال الفنية: «سبّب التقدم العلمي طفرة حقيقية في هذا المجال، وهناك العديد من الأشخاص الذين يتقدمون بمقاربات وأفكار وتوجهات جديدة. ينحو الاهتمام لأن يكون موجها لمعالجة أعمال مشاهير الفنانين، لأسباب مفهومة. لكن الواقع أنّ مشكلات تلك الأعمال تشمل نتاج الفنانين الذين عملوا خلال ذات الحقبة الزمنية كافة، واستخدموا المواد نفسها، وقادت البحوث للكشف عن أنماط أكثر عمومية في آلية تدهور الصبغات».  
بدأت ألوان لوحات أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تبهت بشكل متسارع، بسبب التغيرات التي مرت بها عمليات صناعة الأصباغ. كانت الأصباغ تُصنع سابقا يدويا بطحن المواد الكيمياوية المستخلصة من الأرض، أو المأخوذة من النبات أو الحشرات. وجاءت الثورة الصناعية بانتاج الصبغات الاصطناعية مثل أصفر الكادميوم أو الكروم، التي يمزجها الفنان مع الزيت ومواد الحشو. من هنا بدأت تجاربهم مع الأصباغ الاصطناعية التي كانت تمزج أحيانا بعشوائية ودونما اختبار لفترة بقائها الزمنية. لكنها كانت ألوانا براقة بشكل استثنائي، مكنت فناني تلك الحقبة بتقديم لوحات رائعة في المدارس الوحشية وما بعد الانطباعية والحداثة. حينها هجر العديد من الفنانين تقنيات الرسم التقليدية، كما ترى “لينا سترينغاري” نائبة المدير وكبيرة أمناء متحف ومؤسسة غوغنهايم الأميركية، التي درست تحولات اللون في لوحات فان كوخ، قائلة: “عمل الكثير من الفنانين في الهواء الطلق وجربوا عدة نظريات وأنواع من الصبغات، كان تحررا لونيا قويا ورفضا للمنطق الاكاديمي”. تمضي د. ماس قائلة أن الصبغات الجديدة كانت رائجة حينها، لكنها لم تكن عالية الموثوقية: “لا نستطيع القول (بالنسبة للوحات بعض الفنانين) أن الأشجار أو المراعي ستكون خضراء اللون، خاصة عند فنانين مثل ماتيس أو مونش، لذا فعلينا اللجوء الى التحليل العلمي لاكتشاف الألوان الأصلية”. ورغم أن استعادة الألوان الأصلية أمر شبه مستحيل؛ فإن العلم قاد الباحثين لأقرب ما يمكن من ذلك. 
«..اللوحات تذبل كما الأزهار» درس «كون يانسنز» أستاذ الكيمياء بجامعة أنتويرب البلجيكية ألوان لوحات فان كوخ وماتيس وفنانين آخرين، ويرى أن «تدور فكرة الصيانة حول محاولة عكس مسار الزمن بالنسبة للوحة، وإن بنوع من الطرق الافتراضية». لا يضع مرمّمو اللوحات أصباغا جديدة على قماش اللوحة أبدا، لكن الترميم الرقمي يمكنه فعل ذلك بحرية. تتوقع د. ماس تحولا نحو تقنيات الواقع المعزز في عمليات الصيانة، بحيث يمكن أن نحمل هواتفنا أمام اللوحة لنرى الألوان الأصلية متدرجة على قماشها. أطاح التحليل العلمي بسيطرة مؤرخي الفنون على عمليات التقييم والفحص، بعدما كشف عن فضائح شملت لوحات مزورة لم يكتشفها الخبراء. من المتوقع بالطبع أن يقاوم الخبراء نتائج الماكنات في مهنة تعتمد على العامل البشري وتعتد به مهما بلغت كفاءة الأجهزة الآلية. 
صحيفة نيويورك تايمز