حركيَّة المنهج في مملكة الظلال لياسين النصير

ثقافة 2020/02/26
...

د. جاسم حسين الخالدي
 
مملكة الظَلالِ، كتاب الناقد ياسين النصير، تناول فيهِ بالتَّفصيلِ تجربة "سلمان داود محمّد"، الشَاعر الثمانيني الذي شكل ظاهرة شعرية أطلق عليها النصير، الحركة الثالثة للحداثة العربيّة في العراق.
ومفهوم التجربةُ الشِّعريّةُ لديه؛ تعني دراسة العوامل الاجتماعيّة والذاتيّة الجوهريّة، منها الثانويَّة، أي التجارب المحاذيّة لها، فهو يستمد تجربته من الواقع الذي يعيش فيه.وأظن، أن النصير، كما هو دأبه، في الموضوعات التي اصطادها بسهامِه، كالاستهلال، والمكانيّة، واليومي والمـألوف، يبحث في شاعريّة سلمان داود محمد، عمَّا يميزها عن غيرها، وهي الكليَّة الشعريَّة للشاعرِ موضحًا التي تمثلها بضعة قصائد، ومقاطع من قصائد.أمَّا عمادُ التَّجربةِ الشعريَّةِ الَّتِي يعنيها النصيرُ، عند هذا الشَّاعرِ أو الذين سبقوه، هو "تشبعُ القصيدةُ الحديثةُ باليوميّ والمألوف، والخروج من النمطية الحياتيّة العاديّة إلى طاقةٍ فنيَّةٍ قابلةٍ لأن تشمل فيها لغات اجتماعيّة أخرى".وهذا يعود بنا للحديث عن الحركة الثانية للحداثة العربيّة، التي كان من أبرز سماتها الفنيّة لديه التشبع بالسخرية، وهي تقنية فنية تتيحُ للشاعر التعبير عن أفكار مرحلته، والكشف عن مساوئ العصر التي لا تستطيع اللغة التقليديّة والبلاغة القديمة حمل أعباء التعبير عنها.ومن هذه الزاوية يضعُ الناقد يده على شعرية الشاعر التي يرصدها عبر عددٍ من المجسَّات، من بينها: 
1 -  العلاقة بين الجسد والأشياء في عالم الحياة اليوميّة، ذلك أنَّ هذه العلاقة في تجربة سلمان داود محمد، تكون مولدة لأفعال الشعر، وهو الموضع الأكثر هيمنة في فصل (دليل الحب). ويأتي بهذا المثال الشعري، ليؤكد عمق تلك العلاقة في تجربته:
شخابيط على صنم
أو صباح بلون الكحل
أو ربما ضل منسي على الرصيف
أو قصيدة في صالة الانعاش
أو وطن هارب من قبضة العدالة
يقول النصير، جئت بهذا المثال الشعري لتأكيد أن شعرية سلمان مشبعة بالشفاهية الأرضية التي تجعل مفرداتها على ألسنة مختلفة، ثمة عمق لغوي، رأس على أرض الحياة اليوميّة، ونادرًا ما يرفع رأسه عته، إلا للطيران عبر الحلم...".
ويظهر الناقد رغبة بربط تلك الشفاهية، بشعرية سلمان، التي تقف حائلًا من دون وقوع القصيدة في شباك الحياة اليومية تمامًا.
ومن مواطن شعرية سلمان داود محمد التي التقطها النصير من مجمل شعره، تجسيدها للشكل الإيهامي المختفي في الذاكرة الشعبيّة للصورة الشعريّة، الذي يعني عنده، بمعنى أنها ترفع البقاء في حضن الكلمات المعجمية أو صورها، وإنما تفسح المجال لها؛ لأن تتحول إلى لوحة تشكيلية مادتها مستويات الصور واللغة، ولذلك تتولد الصورة وخلفها يقف ظلها، ولا يمكن رؤيتها كاملة مالم يستحضر شكلها الاحتمالي. فما الايهاميّة التي عناها النصير؟ وهل تصحُّ أن تكون موضوعًا للنص الأدبي، أيًّا كان شكله.يجيب الناقد نفسه عن ذلك، بالقول: الايهام هو القلق الذي يستبطن الوضوح، وهو موطن الاسئلة عن الشيء، هو التفكير، هو اشكاليات المعنى المختبئ.
ويمثلها على ذلك بعدد من الأعمال الأدبيّة الروائيّة والشعريّة التي بنيت بناء ايهاميًا، ومنها رواية (الزمن الضائع) لبروست، التي بنيت على البنية الفضائية للكاتدرائيّة، ورواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي على ايهاميّة الصليب، وقصيدة (دجلة الخير) للجواهري التي بنيت على جسد فتاة غني بالرمزية الجمالية، وهكذا، يبدو أنَّ كلَّ عملٍ لا يخلو أبدًا من وجود تلك الايهامية التي تقترن عند النصير دائمًا بالبنية الفضائية.
ومن مواطن الشعرية الأخرى التي وقف عندها النصير في تجربة سلمان داود محمد، هي قصيدة غير المألوف، القصيدة التي يؤرخ لها النصير بما قدمه سعدي يوسف، في ديوانه (51 قصيدة). واضح جدًا، أنّ النصير وهو يعالج شعريّة سلمان، فأن يجد في قصيدة ما يصلح مثالًا للقصيدة التي أصر على تسميتها (الحركة الثانية للحداثة العربية) التي واحدة من سماتها أو تنويعاتها أنها ذهبت إلى الحياة اليومية، فأخذت المهمل وغير المألوف، وعزفت عن الموضوعات الكبيرة التي عالجت قصيدة الحركة الأولى، وعنت بـ "موضوعات يومية  بحيوات قصيرة، وعابرة، وواسعة".ويبدو أنّ تخلي القصيدة عن موضوعها العام جعلها لا تستقر على شكل ولا مضمون يمكن الاكتفاء به، بل تحول كما يذهب النصير إلى لعب فني.
ويعلّل النصير توجه الشاعر إلى هذه القصيدة، وربما الشعر العراقي بشكل عام إلى الظروف التي يعيشها الشاعر، فالشعر العراقي كتب أغلبه تحت ظروف الحرب والحصار والنفي وغير ذلك، ولذلك لا يوجد موضوع يمكن أن يبقى صالحًا للكتابة لأمد طويل، فكل الأشياء عرضة للتغيير وتبدل الظروف.وبعد هذا يصل الناقد إلى نتيجة مفادها، أن ما يميز سلمان شيئان، الأول أنه يؤسس لمنظومة من الممارسات اللغوية المحلية التي هي صدى للحياة اليومية التي تشكل مادة شعرية بالنسبة له، وأنه يمعن في استحضار الرمزية الايهامية للأشياء، وبمعنى آخر، أنه يؤلف بين الشيء الواقعي والشيء المتخيل شيئًا آخر، يأخذ من هذا، ومن ذاك، ما يشكل عماد الصورة
 الجديدة.