النسقُ الاستعاريُّ ومراتبُ الفضاء الثنائيّة

ثقافة 2020/02/26
...

محمد صابر عبيد
 
النسق الاستعاري يتجه نحو إنتاج المعنى بطرائق تخترق السبل الطبيعية المعروفة في هذا السياق، وبحسب طبيعة المعنى ونوعيته يتمّ اختيار المرتبة الفضائية التي تتلاءم معه، وغالباً ما تنقسم مراتب الفضاء على قسمين: قسم أعلى تكمن فيه المعاني العليا التي ينتجها النسق الاستعاري على وفق رؤية دلالية معيّنة، وقسم أدنى ينتجها النسق الاستعاري على وفق رؤية دلالية أخرى مناقضة لها.
ولا يكتمل المعنى المؤلِّف لشعريّة الكلام من دون إيجاد أعلى درجات التفاهم والتفاعل والصيرورة والاشتباك بين القسمين، ولا شكّ في أنّ النظر إلى هذين القسمين على هذا المستوى من المقام يسهم في صياغة شبكة من الثنائيات التي يتحرك عليها النسق الاستعاري، وكلّ مراتب الفضاء يمكن أن تخضع للحركة الدائرية التي تشتغل عليها هذه الثنائيات في الاتجاهات جميعاً.
تتصدّر الثنائيات المكانية حيّز التشكيل الاستعاري بوصفها الحاوي الأبرز والأشمل لحركة طرفي الثنائية على مسرح المكان، وتأتي ثنائية "فوق/تحت" في المقدمة لأنّها تحكي قصّة الغلاف الذي يغلّف الحكاية أو الموضوع أو الرؤية، فالذراع الأولى لهذه الثنائية "فوق" تمثّل طبقة الغلاف التي تفصل السماء عن جسد الحكاية، في حين تمثّل الذراع الثانية "تحت" طبقة الغلاف التي تفصل الأرض عن هذا الجسد، فكلّ ما هو فوق ينفتح على فضاء السماء وكلّ ما هو تحت ينفتح على فضاء الأرض، وتندمج هذه الثنائيّة مع ثنائيّة أخرى مجاورة لها حدّ الالتصاق هي ثنائيّة أعلى/أسفل إذ يرتفع ذراع "أعلى" إلى درجة "فوق" وذراع "اسفل" إلى درجة "تحت"، في مقاربة تجعل الصعود إلى "فوق/أعلى" اقتراباً من مكان الملائكة والهبوط إلى "تحت/أسفل" سقوطاً في الوحشية والرذيلة.
ثمّة ثنائيّة أفقيّة تمثّلها مزدوجة "أمام/خلف" تفترض وجود نقطة تفصلهما وهي الحدّ الذي يعزل مرتبة التقدّم عن مرتبة التخلّف، فسيمياء "أمام" يحيل على معاني التطوّر والمستقبل والإيمان بالحضارة بما يعكسه ذلك من مفاهيم التقدّم والتنوير الطليعيّ، في حين يحقّق سيمياء "خلف" حالة من التراجع والتخلّف عن المسيرة الحضارية في الحياة مندرجاً في فضاء الظلمة والإخفاق، ويمكن مقاربة معنى "أمام" بوصفه مرتفعاً نحو مقام "فوق/أعلى" ومقاربة معنى "خلف" نحو مقام "تحت/أسفل" على صعيد المعنى الاستعاريّ للدالّ.
ترتفع ثنائيّة "الحكمة/الانفعال" إلى مرتبة فضائيّة أعلى إذ تتحرّك الحكمة في أعلى مراتب العقل، بينما تُنتِج العاطفةُ الانفعالَ في أدنى مراتب العقل بالمعنى الذي لا يمنح العقل الفرصة الكافية لإصدار أوامره بالاستجابة المناسبة، فالحكمة تمكث في مصنع العقل مدّة طويلة كي تصل إلى مرتبة التشكّل والنضج والصيرورة على نحو لا يترك أيّ مجال للخطأ أو السهو أو النسيان، بعد أن تمرّ بسلسلة طويلة من النقد والمراجعة والصوغ والتدقيق لتبلغ مقام الاكتفاء والامتلاء الكامل، في حين تتدفّق تيارات الانفعال من محضن العاطفة على نحو عفويّ سريع لا يخضع لأيّة درجة ممكنة من درجات التحكّم، فتنفتح هذه التيارات على وضع عاطفيّ قد يسفر عن كوارث لا يمكن علاجها، لكنّه في الوقت نفسه قد يؤول إلى نتائج عبقريّة لا يسع الحكمة أن تقود إليها مهما أوتيت من قوّة في الحجّة والمنطق والرؤية حتى في أعلى مراتبها.
أمّا ثنائيّة "الجيد/الرديء" فهي الثنائيّة المتحرّكة الأكثر تداولاً في الاستعمال اليوميّ للغة لفرط تدخّلها في أدقّ تفاصيل حياة الإنسان في علاقته بذاته أو بالآخرين، على النحو الذي يقتضي دائماً إصدار الأحكام العامة وتقويمها تقويماً سريعاً يتوجّه نحو وصف الأشياء بـ "الجيدة" حين تحقق الإعجاب وبـ "الرديئة" حتى لا تحقق هذا الإعجاب، وبين المرتبتين ثمّة كثير من الحدود والمساحات والبؤر والمسافات والاحتمالات والاختلافات والاعتقادات والتموّجات، التي تسمح للفضول الاستعاريّ بالتدخّل والعمل لاستثارة اللغة ووحداتها وبنياتها لأجل إنتاج رؤية أفضل للدوال ودلالاتها.
تدور ثنائيّة "الناجح/الفاشل" في أكثر من محور وعلى أكثر من طبقة، وهي الأخرى تعدّ من أكثر الثنائيّات تداولاً وحضوراً في حركة النعوت الاجتماعيّة التي لا تفرّق بين أحد وآخر إلا عن طريق صفة النجاح أو صفة الفشل، وإذا كان الناجح يحظى بقيمة عليا في ميادين المجتمع وساحاته فإنّ الفاشل يفقد هذه القيمة ولا مكان محترماً له في هذه الميادين والساحات الاجتماعيّة، وللناجح مراتب مثلما للفاشل مراتب أيضاً، فليس النجاح درجة واحدة ولا الناجحون على مستوى واحد في مراتب النجاح، ومثلها الفاشل تتفاوت مراتب فشله بين شخص وآخر وحالة وأخرى ومكان وآخر وزمن وآخر، وتغرف عشرات الاستعارات من هذه الثنائيّة كي تغزو اللغة بإمكانات جديدة تجعلها قابلة للتعرّف والأخذ والتطوّر.
لا تقلّ ثنائيّة "الأكثر/الأقلّ" عمّا سبقها من ثنائيّات في الأهميّة والحضور والتأثير، وهي ثنائيّة تتدخّل في صلب حركة المجتمع حيث دائماً هناك أكثر في جانب معيّن منها وهناك أقلّ في جانب آخر، وفي كلّ شيء وحالة وسبب ونتيجة وسلوك وفعل وإنجاز ثمّة أكثر أو أقلّ بحسب عوامل عديدة تحدّد مرتبة الأكثر أو الأقلّ، وتولّد استعارتها على هذا الأساس في حراك لغويّ يتحدّى القواعد العامّة ويحوّلها إلى طاقة بلاغيّة مجازيّة بالغة الطرافة والإدهاش. 
تبقى ثنائيّة "النخبة/العامة" بما تنطوي عليه من حساسيّة ثقافيّة وفكريّة وأيديولوجيّة هي الثنائيّة الأكثر تداولاً على صعيد الفكر والثقافة والأدب، لما تحمله من إرث بلاغيّ استعاريّ يحدّد الصورة الحضاريّة التي تكون عليها الأمم والشعوب حين تشطرها هذه الثنائيّة على نحو جارح، إذ قد تتمخّض عن ثنائيّة أخرى أكثر خطورة في مرتبتها الفضائيّة هي ثنائيّة "الأكثريّة والأقليّة" التي تشتغل على مرتبة الهيمنة والاستئثار بالسلطة والثروة، لترتفع الاستعارة بمحتواها المجازيّ البلاغيّ إلى أعلى المراتب في درجة استعمالها وممارستها على الصعيدين النظريّ والإجرائيّ، ومما لا شكّ فيه أنّ عدداً لا ينتهي من هذه الثنائيّات القابلة لتأليف نسق استعاريّ حين تعمل داخل بنيان اللغة موجودة وحاضرة في التفكير واللفظ والإجراء والتعبير، ويمكن أن يأتي المتأمّل فيها على أشكال وأنماط وتجلّيات لا تنتهي منها وهي قابلة للانشطار والتبنين استعارياً ورمزياً على أنحاء
 مختلفة.