رؤية نقدية وتنويرية

ثقافة 2020/02/28
...

موج يوسف 
 
تفتقد الثقافة العربية مساحة كبيرة من الرؤى الفلسفية، والتأويل، والميتافيزيقيا، وهي بالأساس قامت على يقينينِ: أولهما المعنى، والآخر الشكل، وهذا الأخير قدِ ازداد عليه التنغيم والتزيين لاكتساب معنى مؤثر في ذات القارئ العربي، وبهذا غدا الشكل الكتابي لا هوية له. وعند قراءتي كتاب (واقعنا الثقافي) للكاتب نصير فليح، والذي حاول أن يتناول فيه مقاربات نقدية تنويرية متداولة في وسطنا الثقافي، استوقفتني بعض فصول الكتاب، التي قال عنها الناقد ياسين النصير: إنَّ المؤلف انبرى إلى هذه المهمة التي تشكّل المفاتيح لكلّ مثقف وقارئ أن يتقنها كي يكتب أو 
يترجم. بعد هذا الاستهلال لا بدّ أن نقف عند هذه الفصول، ولا سيّما الأوّل الذي وضع تحت عنوان(الثقافة والمثقف)، فالباحث قد عرفه من المعجمات الأجنبية وترجمه تحديداً من معجم أوكسفورد الفلسفي، والنظرية النقدية، ولعلم الاجتماع، فضلاً عن تعريفات المفكرين لهذا المصطلح ومنهم عابد الجابري وغيره، لكننا نقف عند تعقيب الباحث إذ يقول: (وإذا رجعنا إلى واقعنا الفكري الثقافي والمجتمعي المباشر، فإنّ الاستخدام والمعنى الشائع لكلمتي أو مصطلحي المثقف والثقافة في مجتمعنا يشير إلى متداولي الكتب والقراء أو المتعلمين الذين حصلوا على شهادة دراسة جامعية. ص 39). 
لا شكّ أنّ الثقافة العربية هي ثقافة (نص)، وقيل عن الشعر ثقافة لأن أمتنا قامت على الثقافة الشعرية، وما قاله الكاتب بالتأكيد من صلب الواقع
، لكنه لم يصحح الفكر المتداول عند عامة الناس ليقوم بمهمته التنويرية باعتباره أحد المثقفين الذين لهم دور مهم في المجتمع، إذ للمثقف دور مهم ومؤثر على الفرد كما قال أنطونيو جرامشي في مذكراته (وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كلّ الناس)، وهذا ما دعا بندا أن يحدد أسماء المثقفين الحقيقين في رأيه، وهم سقراط واليسوع وسبيبنوزا وارنست ورينان، وهو يقول إنّ المثقفين الحقيقين يشكلون طبقة العلماء والمتعلمين البالغي الندرة، بينما رأى إدوارد سعيد أن المثقف يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة. واقتصرت دراسة الكاتب  فليح على التعريفات المختصرة ولم يتطرق إلى ما تناوله أهم الباحثين، لذلك افتقرت إلى الرؤى 
والتأويل.  وفي ما يخص الفصل الثاني الذي جاء بعنوان التنوير، فقد سار على منهج الفصل الأول نفسه؛ عرّفه من المعجمات الأجنبية وترجمه لككنا نقف أيضاً عند ما قاله عن هذا المصطلح ولا سيّما عند بدايات التنوير في عالمنا العربي فيقول: (قد بدأ مع بداية القرن التاسع عشر وغالباً ما يعتبر غزو نابليون مصرَ العام 1798 بداية له. ومع أنّه يملك بعض سمات التنوير العامة إلّا أنّه يختلف عنه كثيراً فهو لم يأتِ نتيجة تطور أو تنامٍ تاريخي حضاري كما حصل في أوروبا، بل نشأ في منظومة ثقافية دينية اجتماعية اصطدمت بالفكر والحضارة الغربيتين بصيغة 
تحدٍّ). إنَّ عصر التنوير في أوروبا قام على أساس العقل، لكن هجومه على الدين كان في مضمره مسألة سياسية وليست لاهوتية، لم يكن يرمي إلى استبدال الماورائي بآخر طبيعي متحضر، بل إنّ بعض شخصيات التنوير تحولت من الله إلى الطبيعة لكنها اكتشفت أنّ هناك إشارة على وجود الله في 
العقل. ومنه نستطيع القول إنّ عالمنا العربي منذ الماضي إلى يومنا لم يدخل في عصر التنوير، بل لم نسمع يوماً أحد الباحثين أو المثقفين قال لرجل الدين ادخل في المسجد ولا تخرج منه، وحل العقل محل الدين كما فعل الأوروبيون، فالذي ذكره نصير ليس تنويراً بل استشراقاً الذي جاء عن طريق الاستعمار ولا سيّما غزو نابيلون مصرَ والرحلات الاستكشافية التي قام بها المستشرقون في عالمنا العربي وما أدخلوه من علوم وفكر مستحدث وما قام به طه حسين وغيره من النقاد ليس تنويراً بقدر من ادخال النظريات الاستشراقية لأنّهم درسوا في الغرب على يد 
المستشرقين. وفي فصل آخر بعنوان الإنسان والإنسانوية نرى أنّ الباحث قدِ اكتفى بترجمة وتعريف الإنسانوية من معجم أوكسفورد، ثم انتقل إلى ما بعد 
الإنسانوية. والحق أنّ الدراسات العربية لم تعطِ حق هذه المصطلحات والتي هي بحاجة إلى التوضيح وكذلك الممارسة حسب قول الباحث حتى أنه اختار ترجمة الإنسانوية وليس الإنسانية فيقول: (تعطي بعداً نقدياً أو إشارة لحمولة سلبية بدرجة معينة كما هو الحال عندما نقول إسلاموي بدل إسلامي. ص 113) بينما هي بمعنى أدق كما قال عنها ـــ الانسانويةـــ الشاعر الانكليزي وليم بليك أنّها (فك الأغلال التي يصنعها العقل) بحيث يغدو المرء قادراً على استعمال عقله على نحو تاريخي عقلاني بغية التوصل إلى فهم قائم على التفكير والتأمل، وهذا ما أراده إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) هو استعمال النقد الإنسانوي لفتح حقول الصراع وتقديم سياق طويل من التفكير 
والتحليل. وممّا تقدم بنا يمكن القول إنَّ الكاتب  نصير فليح قد سلط الضوء على جوانب مهمة في واقعنا الثقافي المحلي وهذه الجوانب مهمة ولا يمكن التقليل من شأنها لكنها خلت من التأويل والميتافيزيقا، ومهمة المثقف أو الباحث هي الغوص في أعماق النصوص وتفكيكها وإعادة قراءتها مرة 
أخرى.