أور في ذاكرة معطوبة

ثقافة 2020/02/29
...

احمد داخل
 
في إحدى الأمكنة المنسية من زمن غابر لم تبرز منها الملامح سوى رؤوس مدببة تشبه المسامير، وقد غيرت ملامحها الأزمنة والطوفانات، وإرهاصات الأباطرة الطارئة من شتى أصقاع العالم. لا يستطيع أحد أن يفك شفراتها إلّا منْ خبر اللغات القديمة أوِ احترف فنّ التنقيب ليثبت أنّ هذه البقعة هي التي صنعت العالم وخطت الحرف الأول للكتابة. لكنها الآن تحتضر تحت ضربات الغول وتهتز كأنّها سفينة استسلم ربّانها لأمواج البحر في ساعات غطرسته. طرحنا أجسادنا المتعبة في زاوية ما من زواياها، وقذفنا بنادقنا الحامية كالجمر الملتهب التي ما انفكت عن الصراخ طيلة الليلة الفائتة، وقد فرغ جوفها من العتاد. أخذنا نلتقط أنفاسنا لنواصل بعدها الزحف باتجاه شارع المدينة الرئيس الذي تحول هو الآخر إلى أنقاض ومتاهات واحتوته الكثير من الفجوات والندب كأنّه وجه مجدور بفعل قنابر الهاونات التي تتساقط هنا وهناك. كنا نتوارى ونقطع أنفاسنا اللاهثة حينما نسمع أزيز المركبات الذاهبة صوب أور، والتي كانت تترك وراءها فتيلا أسود ينبعث من خراطيم مؤخراتها، وهي تشق طريقها بسرعة جنونية وتملأ أحواضها مجاميع بشرية، وهم معبّؤون بالذخيرة، ورؤوسهم ناتئة مغطاة بخوذ معدنية مرصوفة كأنّها أعواد من الثقاب، وأطراف بنادقهم هي الأخرى لاحت لي من خلف الحاجز الحديدي لتلك المركبات. أنا وصاحبي الشيخ الطاعن في السن الذي أكلت أقدامه الدمامل المملوءة بالماء وأعياه التعب من المشي في الدروب الموحلة حتى مكوثنا في هذا المكان لنراقب المدينة من بعيد، وقد استسلمت تماما لهذه الأصوات المتشابكة والمختلفة الأعيرة. تلك الأصوات قد تعالت وأيقظت أور من سباتها الطويل. غادرني حلم الوصول إليها ثانية، فأشار عليّ صاحبي بعد أن قلت حركة المركبات بسلوك جادات أخرى أكثر أمنا من بقائنا هنا، فوافقته الرأي متخذين جادات ترابية ننحدر معها كيف ما شاءت وبخطوات متباعدة لحين دخولنا إلى غابة من النخيل. ساعات من المشي كانت قصيرة لكنها تبدو ثقيلة ومضنية في تلك الأجواء المقيتة فلم أعبق بتلك الرائحة التي داهمتني في هذا المكان واخترقت أنفي بقوة فشعرت حينها بدوار. دوار رهيب لأصحو بعدها على رؤية جثث محترقة، وأخرى ملقاة على جانبي الجادة الترابية وهي مربوطة الأرجل على سيقان أشجار النخيل، فخيّل إليّ أنّها مشنوقة أو مُثّل بها من قبل خصومها. لكن صاحبي أدرك عمق هذا المشهد الخرافي لبطولة أصحابها، وتمتم مع نفسه: "إنّه الصمود بوجه العدو" فآثرت هذه الأجساد ألّا تتراجع أو تستسلم كي لا تقع غنيمة باردة لمن يطلبها. لم تفارق مخيلتي تلك المشاهد التي أعيتني تماما، ونحن نقطع في مشينا مسافات. فأحسست بعدها بصمت ثقيل جدا يملأ المكان الذي جلسنا نستريح فيه. صمت يشبه الحلم لأنّ كل شي هنا هدأ تماما لأننا ابتعدنا عن تلك الأصوات المميتة التي تحدث رعدا مدويا فتقطع سكون الليل الذي دنت ساعاته الأخيرة، فشعرت بنعاس حاد يسرقني على حين غفلة فتوسدت ساق صاحبي المتعب والناعس هو أيضا الذي أخذ ينشغل برصف قطع الحجارة المتكلسة ليحوطها حول مكان مكوثنا لعلها تقينا الرصاص الطائش، لأصحو بعدها على أصوات أقدام بشرية مرتابة ومذعورة في خطاها تكاد لا تلامس الأرض في حركتها الإيقاعية المنتظمة كأنّها تمشي بإيعاز لا تترك مسافة حتى تشغلها بأخرى ودونما وعي وجدتني مندسا بينها لأترك صاحبي من دون وداع الذي آثر البقاء في أرضه. كانت هذه المجاميع البشرية تسلك طرقا تبعدها عن أور، فأدركت أن تلك الجثث المحترقة التي صادفتني البارحة كانت آخر معاقل الثوار، فالتحقنا بأفواج بشرية أخرى نساءً وأطفال ننأى معها مبتعدين عن السيطرات النظامية التي انزرعت على أطراف المدينة التي غيبها الأفق عن ناظري تماما، وأنا في سيري مع هذه الأفواج البشرية الهادرة متجهين صوب الصحراء.