عندما يكون الإنسان محور الحداثة

ثقافة 2020/03/01
...

سلام مكي
غالبا ما تكون اشتغلات الناقد والكاتب عن النص، اشتغالات نصية، بمعنى أن النص بما فيه من بهرجة لغوية وطرائق وأساليب، ومدى ابتعاد الشاعر عن القديم والاقتراب من الحديث، وشكل النص. أما ما يتحدث عنه الشاعر، فهو أمر ثانوي، قد يجد مكانا له ضمن اهتمام الناقد وقد لا يجد. نازك الملائكة، حين كتبت "الكوليرا" التي منحتها ريادة الشعر الحر، رغم مضمونها الإنساني العميق.
إلّا أنّ الشكل الخارجي لها، المتمثل بهدم الشكل القديم، هو من منحها الدور الريادي في كتابة الشعر الحر. حسن ناظم، الناقد والأكاديمي، كان يحمل هموما نقدية، تتمثل بأهمية وجود الإنسان في الشعر وليس وجود اللفظ المختلف والغريب والجميل، والرائق. الإنسان الذي يرى حسن أنّه غيّب تماما من الشعر العراقي الحديث المنشغل بأمور وقضايا لا علاقة للإنسان بها، سوى أنّها تسوقه إلى الموت أو الغربة. 
قد وجد ضالته في فوزي كريم، الشاعر والناقد، صاحب الشعر المختلف والنقد المختلف، الذي مثّل علامة فارقة في الشعر الستيني العراقي، ولحد وفاته، من خلال طروحاته النقدية، بدءا من ثياب الإمبراطور وانتهاءً بشاعر الراية والمتاهة. فوزي كريم الذي رحل عن عالمنا وهو مشغول بالإنسان المتحرر من قيود الأفكار والعقائد، المنطلق نحو أفق أكثر رحابة وسعة من الأيديولوجيات.  كان فوزي هو المصداق الأمثل لكل أفكار حسن ناظم، الذي استطاع استنطاق فوزي وتشكيل صورة عنه، تتميز بالوضوح
 والبساطة. 
حسن استطاع أن يقدم فوزي كريم للقارئ، أكثر مما قدمه فوزي لنفسه، فهو قال عن فوزي صراحة ما كان يقوله فوزي عنه نفسه تلميحا، وفوزي محق في عدم التصريح، لأسباب قد تبدو معلومة
 للجميع.
 اشتغالات حسن ناظم ليست مجرد التنقيب عن الإنسان في الشعر، بقدر ما كان يسعى الى تفتيت النظرة العامة للشعر، والتي تراه مجرد نص مكتوب، لا علاقة له بمن كتبه، ولا بالظروف التي كان سببا في كتابته. فهو يقول في مقدمة " أنسنة الشعر": تمثل هذه الدراسات نقدا وكفارة نقدية عن عبث مورس على النصوص عبر إغفال الجانب الانساني فيها، لقد انبثقت رؤية ما يمكن تسميته بالاكتفاء النصي من وضع عالمي طبق النظرية الأدبية.
حسن ناظم، لم يكتفِ بقراءة فوزي كريم من خلال نصوصه فقط، فكانت محاوراته ولقاءاته وجها لوجه، سببا في إنجاز كتاب" أنسنة الشعر". يقول حسن في كتابه" إضاءة التوت وعتمة الدفلى" الصادر عن دار المدى عام2013: أدت معرفتي الجديدة بفوزي كريم، التي أغنت معرفتي القديمة به الى كتاب "أنسنة الشعر" الذي جاء ثمرة هموم نقدية وجدت ضالتها في أشعار فوزي كريم. والمعرفة الجديدة التي يقصدها حسن، هي علاقته التي تجاوزت قراءة نصوص فوزي الى لقاءات وحوارات مستمرة فيما بينهما. هنا يحاول حسن ناظم، أن يقول: إنّ الاكتفاء بقراءة النص الشعري أو الأدبي بشكل عام، قد لا تساعد على تكوين فكرة كاملة عن تلك النصوص. فكلما اقترب الناقد أو القارئ من الكاتب نفسه، كان الوصول إلى سطح النص وعمقه
 أسهل. 
الأنسنة في الشعر، كما يقول ناظم: تشترط في الشعر حرية الذات واستقلالها. وحرية الذات تعني، الانحياز للإنسان بشكل كامل، بعيدا عن قيود العقائد والأفكار. وهو، أي حسن ناظم، لم يجد شاعرا حرا أفضل من فوزي كريم، ليتناول شعره ونقده من هذا المنطلق. 
تبدأ أنسنة الشعر لدى فوزي كريم، من الشاعر أولا، بوصفه إنسانا. فالشعر، هو تعبير صادق عن إحساس الشاعر، وكاشف عن مكامنه الداخلية، ومعبر عما يختلج في أعماقه. فلا تطبق الأنسنة في الشعر على النصوص التي سمح الشاعر لمؤلف آخر بالكتابة معه. وهنا أقصد ما عبّر عنه عبد الله الغذّامي في كتابه: النقد الثقافي، بالمؤلف المزدوج. فأي نص يشترك في كتابه المؤلف ومؤلف مضمر وهذا المؤلف هو الثقافة. فالثقافة بما تمثله من أفكار وتعاليم ورؤى اجتماعية وتصورات عامة، مطبوعة في ذاكرة الشاعر، تحرك لا وعيه، وتساهم بطريقة غير مباشرة في إنتاج النص الشعري أو الأدبي. وهنا سيصنف النص الشعري ضمن شعر الغرض، أي شعر النية المبيتة كما عبر عنه فوزي كريم في إحدى لقاءاته التلفزيونية. 
فشاعر الغرض و الشعر الذي كتبه شاعران، ينحاز الى ما كتبه الشاعر المضمر على حساب أحاسيس ومشاعر الشاعر الظاهر. وهذا الشعر لا ينحاز الى الإنسان، بقدر ما ينحاز الى الأفكار والتراكم الجمعي للأفراد. الجانب الآخر من أنسنة الشعر، هو قضايا الانسان وتطلعاته وأهدافه. فأنسنة الشعر، تشترط أن يكون النص الشعري معبرا على قضايا الإنسان. أنسنة الشعر تريد من الشعر أن يكتب من أعماق الشاعر لا من مكان آخر. فأشعار فوزي كريم، عبارة عن" ينبوع ماء داكن" وهذا الينبوع هو ذاكرته لا غيرها. وهذا الينبوع، هو مصدر الماء الذي يبلل قريحة الشاعر لتنبت الذاكرة حروفا وتنضج ثمارها فيقطفها الشاعر في ما بعد. 
غالبا ما تكون تلك الثمار، صنيعة الشاعر وحده، فلا ثقافة ساهمت بخلقها ولا مجتمع ولا مؤلف آخر. ذلك النهر هو المؤلف الصريح والوحيد للنص الشعري، يجري حاملا معه كل هموم الانسان ومشاغله ومشاكله. ليس معنيا بما سواه من أمور جمعية تتمثل وظيفتها برفع منسوب الموج العام، ليصل الى سواحل الأفكار والقيم العامة، التي قد لا تعني الإنسان
 أصلا. 
إنّ كتاب" أنسة الشعر" مدخل إلى حداثة أخرى. تلك الحداثة التي سعى حسن ناظم الى التفرد بها، تعنى بالإنسان، الذي قرر الشاعر أن يجعله مادة لشعره، بصرف النظر عن البناء الشكلي واللغوي لذلك الشعر، وهو ما نجح به ناظم إلى
 حد بعيد.