يتأسس جدل العلاقة بين الإعلام والفن منذ البدء على أسئلة جوهرية بين التوازي أو التقاطع أو الفاعلية، وقد تتقاطع هذه العلاقة وتلتقي وتتوازى، تلتقي في الرسالة وتتوازى في الوسائل وتفترق في الغايات، إذ يستعير الإعلام من الفنون تقنياتها، وتستعير الفنون من الإعلام موضوعاتها لكونهما يبحثان عن الحقيقة وأن الفن خاص بحيث يجب أن لا يبقى حبيس صاحبه ويصل الى جمهور واسع؛ لأنّ خطابه انساني ويتعلق بالوجدان الداخلي للمتلقي، وكان الانسان منذ البدء ينقش موضوعاته الأولى بالكلمة والحرف والصورة لكي يعلن عن نفسه وما يحيط به من مخاطر وعقائد وأعراف وأشياء
أخرى.
أما فنونه فقد بدأت بالكتابة والرسم على الكهوف، وبحكايات الرواة والسمار في الفنون الأدبية والمسرح.
ولأن تقنية الاعلام لم تتبدَّ بالشكل الذي هي عليه الآن فإنّ وسائله البدائية كانت هي الوسائل المستخدمة، ففي الأعراف القبلية العربية القديمة كان الشاعر لسان القبيلة ومسؤول إعلامها يدافع عنها ويمدح رجالها ويشد العزيمة ويباري شعراء القبائل الأخرى وصولا الى الوقت الحاضر الذي يتخذه شاعر العشيرة أيضا.
ولهذا فإنّ ثقافتنا العربية ما زالت تحتفي وتبالغ في فنون القول البليغ على حساب الفنون الأخرى.
ولعل الشواهد التاريخية كثيرة على خصوبة تلك العلاقة، فقد استثمر الفن الحديث تقنيات الاعلام، بوصفه فنا يعتمد التنظيرات والمقولات النصيّة ووسائل الطباعة في بعض تجلياته، بينما تشكل الصورة المرئية الجزء الآخر، ولا يمكن اهمال دور النقد المنشور في صياغة مسمياته الانطباعية أو التكعيبية طبقا لطرائق الاشتغال التي لم يلتفت اليها صانعو الخطاب نفسه، وتم التعرف على حركية الفن عبر التاريخ من خلال الوسائل الطباعية (الكتاب، المجلة، المطبوع الفني، الصحف)، فضلا عن التلقائية البريتونية لدى السوريالية التي اعتمدت الآلية الطباعية كجزء من المقاربة الفنية وبعض وسائل الاعلام.
وعلى غرار هذه التوصلات تأسست عام 1921م في المكسيك حركة فنية متعددة التخصصات (أستر بدنستو) متأثرة بالثورة المكسيكية والثورة التكنولوجية التي حدثت مع وصول الكاميرا والآلة الكاتبة والراديو وتأثرت في المدارس المستقبلية والتكعيبية والدادائية.
وتعرضت بعض الأعمال الفنية في السينما والتشكيل الى مفهوم الاعلام وأخذ كل تيار واتجاه من الآخر في تعالق انتج خطابا يحتكم الى قدر كبير من الجمالية المعبرة سواء كانت بشكل مباشر أومن خلال الايحاء غير المباشر ، اذ تحدث الروائي جورج أوريل في روايته (1984) عن فقدان الانسان لحريته بسبب المدنية التقنية المدمرة حين يصبح تحت المراقبة الدائمة والقاسية ، أو عندما تم اتحاذ رسام شاب بطلا لفيلم (تايتنك) مع البطلة الأخرى (المغنية) مما جعل الترويج للتشكيل والموسيقى في الفضاء السينمائي التداولي أمرا يشكل علاقة جديدة ، أو في تداخلات صورة ناجي العلي الساخرة مع نصوصه
الصحفية.
ولعل البدايات التي أعادت الهيبة للصورة محاولة (سارتر) من كتابة سيرته عن طريق الصورة الفوتوغرافية التي مثلث أزمنة مختلفة لحضوره الحياتي، ثم فاعليتها الراهنة ، بوصفها واحدة من مقومات السلطة في القرن الحادي والعشرين، بينما تعد التحولات الكبرى موسومة بنتاجات فكر ما بعد الحداثة وفنونها، تلك التي قطعت الصلة بالتأملات السابقة ومغادرة النصوصية التي كانت تعد مقدسة والانحياز الى فضاء الصورة ، وهذا ما نعتت به الستراتيجيات الكبرى كما في السيميائية التي تقصدت فاعلية العلامة ومكوناتها الايقونية والرمزية أو الاشارية، واثرها في الفنون المرئية التي اعتمدت الصورة الشخصية المرسومة أو المستنسخة خصوصا في (الفن الشعبي) وتوظيف صور المشاهير (مارلين مونرو، نانسون مانديلا ، جيمي كارتر) وآخرين أو اللجوء الى تجميع الكاميرات القديمة المهشمة وتلصيقها على السطح التصويري لفناني هذا التيار.
ثم توالت التيارات اللاحقة على استثمار العديد من الصيغ الاعلانية كما في (الفن البصري ، الفن السبراني، الرسوم الحاسوبية، واستخدام الصور المركبة والكولاج ، ديكولاج الجاهز ، الاجراءات السياسية واستخدام السخرية والتهكم هي الموارد الحالية ، فضلا عن ثقنيات العرض ثلاثية الأبعاد التي وائمت بين الرؤية الفنية والمعطى الواقعي في العالم الموضوعي من أجل التقرب الى الحقيقة .
وفي هذا السياق تم اعتماد المضمون الاعلامي في بعض المؤسسات الراعية للفن مثل بوست ماسنزر، ساندرا في نيويورك، وصالة جيما في برلين باعتماد العرض الالكتروني بعد استيعاب البرامج الفنية الجديدة وهي مثابة جديدة في تداخل الفنون والاعلام ، فضلا التواصل البحثي والدراسي عن بعد من خلال التواصل الدراسي عن طريق اليات اعلامية
حديثة.
ومن هنا يبدو الاعلام ضروريا للتعريف في الفنون وايصال الخطاب الابداعي الى مستويات مختلفة من التلقي، لكنه في اللحظة ذاتها يبدو مضرا حين يرفع من شأن ما ليس ابداعا ولا فنا حقيقيا، أو الاعلام غير المهني الذي تكون قراءته للابداع خاطئة أو مغايرة للواقع او منافيا للحقيقة، ولا يتوافر التحكم في الصناعات الثقافية الا بالوعي العارف بلغة السمعي والبصري وثقافته الذي تتم فيه صناعة الصورة ونسج دلالاتها وتوجيه معانيها نحو الوعي واللاوعي معا.