التسلّل لبستان البهرزي

ثقافة 2020/03/01
...

علي وجيه
لا اضيع يوماً دون التسلل لصفحة الشاعر أبراهيم البهرزي في الفيسبوك لقراءة ما يكتب أو ما ينشر، بالنسبة لي، البهرزيّ من شعرائي المفضّلين، وهو من شعراء جيل السبعينات لو صحّ التحقيبُ النقديّ، نشر ثلاثة كتب منذ السبعينات حتى الآن "صفيرُ الجوّال آخر الليل"/ شعر، و"شرفة نيتشة"/شعر، و"لا أبطال في طروادة"، رواية، ومنذ أن قرأتُ له "صفير.." وأنا أتعامل مع شاعرٍ يختلفُ بكثيرٍ عن مُجايليه، يختلفُ عن نفسه. 
لعلّ المشكلة الأساسيّة في البهرزيّ، هو عشوائيّة الانتظام في النشر والتسويق، رغم الانتظام الجاد في الكتابة، التي جعلت "شرفة نيتشة" تزيدُ عن 700 صفحة من القطع الكبير، وهو ما يُشبه "الأعمال الشعرية"، هذه العشوائيّة التي أضرّت المشروع الشعريّ للبهرزي، وجعلتْهُ شاعراً من كتلةٍ واحدة، لم تقرأه بطريقةٍ تجعلك تتلقّاه بالنسق الطبيعي، مجموعةً إثر أخرى، وهذا الاختلاف والضرر مسبّبه وضعٌ سياسيّ وشخصيّ، كما كتب هو أكثر من مرّة.
منذ السطر الأول، أعرفُ أنّ هذا النص للبهرزيّ، لا أعني نصّاً محدداً، لكنه النصّ الريفيّ، الممتد بنسغٍ لغويّ أصيل، واجتراح خطّ لغويّ موازٍ عن اللغة الشعرية المعهودة، مع كثيرٍ من العاطفة، العاطفة التي تشكّل بالغالب مقتلَ النصّ الشعريّ، لكنها رئتاه بالنسبة للبهرزيّ. وهذه المنظومة الريفية التي تتعاشق مع ما ينشره من شعرٍ وسردٍ وذكرى وفوتوغراف، نادرةٌ للغاية في الشعر العراقي، منذ الالتماعات الريفية لدى السيّاب، ثم تركزها في أعمال طالب عبد العزيز، نامق عبد ذيب، ونماذج قليلة جديدة فضّلت الكتابة عن فوضى المدن وضجيجها، دون أن تفتَّ العشبَ في النص، وتتعالق مع ظلمته 
الخضراء الكثيفة.
صعوبة الإمساك بنصّ البهرزي، بشكلٍ عام، هو لعدم وجود مرجعياتٍ واضحة فيه، تحضرُ كلّ العناصر والتأثيرات دون أن تمسكَ واحدةً منها، ومن هنا تتجلّى دقّة عنوانيْ كتابيه الشعريين "صفير الجوّال آخر الليل" و"شرفة نيتشة"، الجوّال وحيدٌ ومتفرد، ويزيدُ وحدته الليل وآخره، ونيتشة يكاد يكود الوحيد السرمديّ، وهو يطلّ بغضبٍ وحنقٍ على العالم، واستعارة وحدة نيتشة هنا تُشبه كثيراً وحدة البهرزيّ التي فرضها على نفسه في ديالى، بعد تعرّض عددٍ كبير من أسرته للإرهاب والقمع الطائفيّ المسلّح، ثم تعرّضه إلى مشاكل قضائيّة. هو يطلّ بغضبٍ على هذه البلاد التي يحبّ، وغضبه لا يختفي إلاّ بدخول عناصر البستان والنهر والثمار في النص، فهو هنا يُواجه البهرزيّ الجوّال، الوحيد لكن المتداخل مع عناصر بيئته، وليس شرفة 
الفيلسوف الغاضب.
الخساراتُ المتتالية التي واجهت البهرزيّ، ألقت بطابعها الثقيل على النص، وبين النصّ المتفائل في "صفير"، ثم النصوص التي يشكّل الغضب ملمحاً أساسياً منها دون أن يخدشَ الفضاء الشعريّ، وصولاً للنصّ اليائس، نصّ الشاعر الذي تعبَ من القتال والمواجهة، الشاعر الذي يكتب: "لا مُضيئاً ولا مُعتماً/ كان درباً مررتُ بهِ/ لم أُبالِ/ كان همّي/ إضاعةَ وقتِ الحياةِ/ مررتُ هنا وهناكَ/ خسرتُ الدروبَ جميعاً/ ولا بأس/ إنّي ظفرتُ/ ببعضِ الجمال". هي تُشبه حيرة امرئ القيس، الذي رضي من غنيمة التطواف بالغياب، أو رضى الجواهري الذي "هانت مطامحه حتى لأدنى طماحٍ غير مضمونِ"، وهي سيرةُ الشاعر الطموح الغاضب، الذي لا يصلُ إلى نتيجةٍ سوى أن يبحث عن كسرة سلام، وهدوء، وكأس نبيذٍ أخير ليكمل النص.
أتسلّلُ يومياً لصفحة البهرزيّ، أعلم أنه يتركُ باب بستانه موارباً، أمسّ برتقالات نصوصه، ذاكرته القديمة، والجديدة، وأغلق الباب مُبتسماً، من هذا المبدع الذي أحبّه شاعراً!