د. عمار إبراهيم الياسري
عن دار ابن النفيس للطباعة والنشر والتوزيع في العاصمة الأردنيّة عمان صدر كتاب الرفض في الشعر العراقي الحديث للدكتور عمار سلمان المسعودي، وهو دراسة أدبية تناولت شعر الرفض في فترة الحكم الملكي وقتذاك.
كانت النصوص الموازية لدى المؤلف متنوعة، فقد حمل الغلاف لوحة تشكيلية غلب عليها لونان متسيّدان هما الأزرق بتدرّجاته اللونيّة وهو من الألوان الباردة التي تشي بالصدق والصفاء والأحمر بتدرّجاته اللونيّة وهو من الألوان الحارة التي تشي بالدم والقتل والشهوة، ولو ولجنا إلى صفحة الإهداء نجد أنّ تمثلات الرفض مائزة حينما يقول (إلى أخي الشهيد عبد العباس سلمان عبيد الذي أخذه الأفق الأحمر بعيداً).
فالمؤلف قد استخدم ذات التضاد اللوني حينما صنع صراعا ما بين الشهادة التي تشي بالطهر والنقاء والأفق الأحمر الذي ارتبط بالموت القسري في بنية دلالية متعاضدة متنافرة، في حين تضمن الغلاف الخارجي تظهيراً للأستاذ الدكتور عبد العظيم السلطاني كان جزءاً من المقدمة يؤكد تجسد فكرة الرفض في الشعر العراقي في مرحلة تاريخية مهمة من مراحل تاريخ العراق الحديث، ومن خلال بنية النص الموازي المتنوع مابين اللوحة التشكيلية والآية القرآنية والإهداء والتظهير يجد القارئ نفسه أمام عتبة دالة متعاضدة تركيبياً ودلالياً يدلف من خلالها إلى متن النص
الرئيس.
انفتحت الدراسة على خمسة فصول ذات عنوانات فرعية وتمهيد وكما يلي، بيّن المؤلف في التمهيد مفهوم الرفض في اللغة والاصطلاح، وتجسد الرفض لديه على مستويين، الأول الرفض الثوري الذي يجسده المثقف العضوي الذي يسهم في بلورة خطاب الرفض المجتمعي كما نلحظ ذلك لاحقا في نصوص الرصافي والشبيبي والجواهري وآخرين، والرفض الوجودي الذي ينغمر الرافض فيه في وحدة وجودية قاحلة، في حين تنوعت عنوانات الفصول ما بين الرفض السياسي والرفض الاجتماعي ورفض المكان ورفض الزمان وثنائيات الرفض.
في فصله الأول الذي انقسم على خمسة مباحث فرعية تنوعت المناهج التحليلية القرائية لدى المؤلف، ولو تابعنا المبحث الأول الموسوم رفض الاحتلال والمبحث الثاني الموسوم رفض الانتداب نلحظ أن المؤلف قد اعتمد المنهج الاجتماعي الذي يعد احد المناهج السياقية في فترة ما قبل النقدية الحديثة في تحليله للنصوص الشعرية وتبيان فلسفة الرفض فيها، وحينما يحلل بيتاً للرصافي يقول فيه:
وجهان فيه باطن مستترٌ
للأجنبي وظاهر متكشفُ
نلحظ أن المؤلف يركز على النفاق والتلون الذي يمارسه بعض السياسيين أو رجال الدين أو شيوخ العشائر وغيرهم، ويرى المؤلف أن الرصافي هنا أداة تنويرية لكشف الزيف الاجتماعي، لذا اعتمد النهج الاجتماعي في تحليله للنصوص الشعرية المتنوعة التي مر بها، أما في مبحثه الثالث من الفصل نفسه الموسوم "رفض الحكومات" فنلحظ تحولا منهجيا في القراءة، إذ اعتمد المنهج السيميائي الذي يعد من المناهج النقدية الحديثة، ولو تابعنا دراسته لبيت الجواهري الذي يقول فيه:
مضت هدرا تلك الدماء ونصبت
ضخام الكراسي فوق هام محطّم
نرى أنّ هناك علاقة طردية بين مفردة الكراسي التي تشي بالتجبّر ومفردتي هام متحطّم التي تدل على الإرادة الوطنية، فالاستخدام البلاغي هنا اشتغل دلاليا على وفق الحمولات الاتفاقية للدلالة في وعي المتلقي كما يذهب إلى ذلك اللغوي السويسري (دي سوسير).
أما في مبحثه الرابع الذي تناول فيه النصوص الرافضة للمعاهدات فنلحظ تحولاً منهجياً جديداً نحو مدرسة التلقي والتأويل التي تعد منهجا تطويريا من مناهج الحداثة إلى ما بعدها على وفق طروحات مدرسة (كونستاس) الألمانية التي ترى أن المؤلف يجب أن يترك في نصه فراغات يقع على المتلقي ردم فجواتها كي يصبح ناصاً جديداً مشاركاً فاعلاً، وهذا ما يحقق لنا استراتيجية القارئ المثالي أو النخبوي، ولو اطّلعنا على تحليله لبيت الرصافي:
نشروا المعاهدة التي في طيها
قيدٌ يعظ بأرجل الآمال
نلحظ أن مفردة طي منفتحة على معان الإخفاء ودلالات الإضمار المتعلقة ببنود الاتفاقية التي كبلت إرادة الشعب العراقي ووقفت حائلا دون تحقيق سيادته، وهنا يؤكد أن الرصافي قد جعل من بنود الاتفاقية مضمرة فارغة ولا بدّ من معرفة ماهيتها كي يكتمل المعنى ويردم الفراغ أو الفجوة، في حين شهد مبحثه الخامس الذي وسمه برفض الشخصيات عودةً إلى المناهج السياقية السالفة، أما الفصل الثالث فقد شهد تحولاً جذرياً عن الفصلين الأولين تحول إلى منهج جديد هو التحليل الظاهراتي، بعد أن عنون فصله الثالث تحت عنوان رفض المكان وقسمه على خمسة مباحث نلحظ فيها تمظهرات الطروحات الباشلارية في تحليله لبيت الزهاوي:
يا مغاني الصبا وأرض شبابي
ما طلبت الفراق لولا الدواعي
فالمؤلف ذهب إلى ما ذهب اليه (باشلار) من أن ارض الطفولة بكل تفاصيلها المندرسة في المهملات من العاب وأثاث بيتية شاكست وعي الشاعر وجعلته شديد التعلق بمرابعه على الرغم من رفضه للفراق القسري، فالمكان هنا أصبح مألوفا ولكن بفعل أفاعيل قهرية استحال طارداً، في حين شهد فصله الخامس المعنون بثنائيات تحولا قرائيا جديدا نحو المنهج البنيوي، إذ اعتمد قراءة الثنائيات مثل القلة والكثرة، الحضور والغياب، الوجود والعدم، الاستشراق والاستغراب، وعلاقتها بالبنية العميقة بالنص، كما نلحظ ذلك في تحليله لنصوص الشبيبي والسماوي والجواهري، ولو تابعنا تحليله لبيت الجواهري:
سعد الفتى متقبلا من دهره
مقسومه بقبيحه وجميله
نجد أن البنية العميقة التي يبحث عنها النص هي السعادة، والثنائيات التي فجرت طاقة النص الجمالية هي ثنائيتا القبح والجمال وسط صراع البنى السطحية من أجل الوصول إلى تسيد البنية العميقة المرتبطة بالجمال الذي يسعى له الشاعر في وحدة شمولية تشي بالرفض لكل الأوجاع التي حاقت
بالمجتمع.