ما هو حقيقي يكون عابراً للأزمان والأمكنة وللثقافات واللغات والحضارات

ثقافة 2020/03/02
...

الرباط/ فاضل محسن 
 
يعد برشيد رائد المسرح الاحتفالي، إذ قدم التنظير له على شكل بيانات تحمل اسم “بيانات المسرح الاحتفالي” وقد جمع تلك البيانات في كتاب سماه (المسرح الاحتفالي)، الف العشرات من المسرحيات التي ما زالت تقدم حتى الآن وترجم أغلبها إلى اللغات الفرنسية والانكليزية والاسبانية، وكتب العديد من الكتب النقدية في مجال التنظير المسرحي.
مؤلف ومخرج مسرحي ولد في العام 1943، وحصل على دبلوم في الاخراج المسرحي من أكاديمية مونبولي / فرنسا،  وعلى الدكتوراه من جامعة مكناس، تولّى مناصب مهمة وهو عضو مؤسس لنقابة المسرحيين في المغرب، كتب الرواية والشعر والمسرح والنقد وتدرّس نصوصه المسرحية في المدارس المغربية والمعاهد المسرحية العربية وفي مدارس البعثات الفرنسية. بعد سنوات طويلة، وبعد 40 سنة على أوّل زيارة في العام 1977، ها هو عبد الكريم برشيد، يعود الى بغداد مرة أخرى، بهذا الحوار الذي خصَّ به جريدة «الصباح».
* هل أثرت فيك أجواء مدينتك فاس، من خزانة الكتب إلى الطرق الصوفية والحلقات في تكوينك المسرحي؟ وهل تعد المكان جزءاً من تكون الشخصية؟
–  الذي نسميه المكان ليس معادلاً للفراغ ولا للخواء، ولا ورقة بيضاء يمكن أن نكتب فيها وعليها ما نشاء، ولكنه جسد حي، يفعل وينفعل ويتفاعل ويؤثر في الأجساد وفي الأرواح وفي الأفكار، وهو جسد له أرضه وسماؤه، وله تربته الخاصة، وله أملاحه في هذه التربة، وله معادنه، وله فضاؤه وله مناخه، وله ثقافته التي أوجدها التاريخ وأوجدتها الجغرافيا أيضاً، وهو الذي ينبت النبات، تماماً كما يمكن أن ينبت الناس، وهو الذي يعطيهم ملامحهم، ويعطيهم كثيراً من المعطيات الثقافية والجمالية والأخلاقية التي تميزهم، شكلاً ولوناً وأخلاقاً وسلوكاً، فأبناء الجبل، في قدرة التحمل لديهم، ليسوا هم أبناء السهل، وأبناء الصحراء، في وضوحهم، ليسوا هم أبناء الغيم والضباب، وذلك في غموض رؤيتهم، ويمكنك أن تجد هذا المعنى في شخصيتين من شخصيات شكسبير، تجدهما لدى هاملت البارد، فكرياً وعاطفياً ووجدانياً، والمنتمي إلى الدنمارك البارد، والذي لا يفعل الفعل إلّا بعد أن يسأل ويتساءل ويشك ويحتار، وفي مقابله تجد عطيل الحار، عاطفياً ووجدانياً، والقادم من أرض أفريقية حارة وملتهبة، والذي يسبق الفعل لديه على التفكير، وإذا كان الإنسان في المسرح اليوناني مسيّراً من طرف الآلهة، فإن الإنسان ما زال مسيراً من طرف المكان.
 
*وهل تعتقد أنّ اليونانيين ـ مثلاً ـ لو كانوا يعيشون في الصحراء العربية، كان يمكنهم أن يؤسّسوا هذا المسرح وهذه الفلسفة، وأن تكون لهم هذه العقلانية؟
- وأنا عشت في أمكنة متعددة، واكتسبت بذلك هوية مركبة، عشت طفولتي بين أمكنة مختلفة، وأخذت منها أشياء كثيرة بلا شك، وعشت في مدينة فاس زمناً طويلاً، وأخذت منها أجمل ما فيها، وتشبعت فيها بالفنون وبالفكر الأصيل، وعشت في مدينة الخميسات، وأعطيتها شيئاً مما لدي، وأعطاني المكان فيها شيئاً من ثقافته الأمازيغية الاحتفالية، الغنية بالألوان وبالمعاني وبالألحان، وعشت في مدينة الدار البيضاء، وأخذت منها روح الحداثة والمعاصرة، كما كتب لي أن أعبر من مدينة مراكش، وأن أنفتح من خلالها على الثقافة الافريقية والعربية والأمازيغية، وبهذا فقد أخذت شيئاً من ثقافتي ومن رؤيتي ومن أخلاقياتي من الأمكنة التي عشت فيها.
ـ * بعضهم يقول بأن المسرح في طريقه إلى المتحف بسبب تطورات الحياة ووسائل الاتصال وغير ذلك من الميديا.  ماذا تقول وأنت المدافع الكبير عن الشكل المسرحي الكلاسيكي التقليدي؟
- أيّ مسرح؟  أنت تعرف أن المسرح هو احتفال الإنسان وهو عيده اليومي، وهو ديوانه الذي يخبئ فيه فرحه وحزنه وحبه وشوقه وخوفه وحيرته وشكّه وجدّه ولهوه، وإذا كان ممكناً أن يدخل الإنسان المتحف يوماً، فإنّ هذه الفنون الاحتفالية يمكن أن تدخله أيضاً، وهذا ما لا يمكن أن أتصوره أبداً، فمن طبيعة هذا المسرح أنه يتجدد دائماً، تماماً كما يتجدد الإنسان، وكما تتجدد الدنيا، وهو بهذا (محكوم) بأن يتغير، كما يتغير الفكر، وكما يتغير التاريخ والجغرافيا، وهناك دائماً مسارح جديدة تولد، برؤى جديدة وبلغات جديدة وبأبجديات جمالية جديدة، وهناك أخرى قديمة تبقى في الخلف، ووجودها في الخلف، لا يعني أبداً أنها غير موجودة، أو أنّها قد ماتت وانتهت، لأنّها أساساً أفكار ومعان، والأفكار والمعاني لا تموت أبداً، ومعنى هذا أن الأفكار (القديمة) تحتاج دائماً إلى القارئ الجديد، وتحتاج إلى الرؤية الجديدة، وتحتاج إلى العلاقة الجديدة، وتحتاج إلى الأدوات الجديدة والمنهجيات الجديدة لإعادة تركيبها تركيباً يتماشى مع النحن، ويتوافق مع الآن، ويتناغم مع الهناء، ولعلَّ هذا هو ما يمكن أن تجده اليوم في المسرح الأوروبي والغربي المعاصر، الذي لا يؤمن بمتحفية المسرح، ولا يؤمن بمتحفية الفلسفة ولا بمتحفية الفنون التشكيلية، ولهذا نراه يعيد تقديم المسرح اليوناني، بأزياء وسينوغرافيا جديدة، ويعيد قراءة مسرحيات كبار المؤلفين المسرحيين العالميين القدامى، وذلك برؤية معاصرة جديدة، فالمسرح يخبئ روحه فيه، وفي نصوصه حياة وحيوية موجودتان في حالة كمون أبدي، وبقدر ما تعطي هذه النصوص تعطيك، وبحسب قراءتك لها يكون وجودها الجديد والمتجدد، وبهذا يكون هذا المسرح (القديم) جامداً في القراءات الجامدة، ويكون حياً في القراءات الحية، ويكون منغلقاً في القراءات المنغلقة، ويكون متفتحاً في القراءات المتفتحة، ويكون عالماً في القراءات العالمة، ويكون جاهلاً وأمياً في القراءات الجاهلة والأمية، وعليه، فإنّ من يحتاج لأن يدخل المتحف حقيقة، ليس هو هذا المسرح المجدد والمتجدد عبر التاريخ، ولكن هؤلاء الذين لا يعرفون حقيقة المسرح، والذين يتخيلون بأن هذا المسرح الإنساني يمكن أن يدخل المتحف يوماً، والذين يقبضون على رماد المسرح ولا يقبضون على جمره.
 
* بدفاعك عن الأشكال التقليدية المسرحية، يعني أنك بعيد عن التمرد ولا يهمك التجريب، ولا تؤمن بالحداثة (أقصد حداثة الشكل المسرحي) أو حداثة التكوين في القالب المسرحي؟
- الأصل في المسرح أنّه فن وفكر وعلم وصناعة التمرد بامتياز، وهو مبني على أساس أنه رؤية نقدية، وعلى أساس أنه موقف نقدي، وليس هناك مسرحي واحد في العالم، لم يكن متمرداً على الواقع، ولم يمارس المعارضة الوجودية والاجتماعية، فالمسرحي ينطلق دائماً من فكرة أن الواقع متخلف ومريض، وأن هذا الواقع المريض يحتاج إلى العلاج، وتختلف طبيعة العلاج لدى المسرحي، فهناك من يعالج بالأدوية، وهناك من يعالج بالضحك، وهناك من يعالج بالكي، وهناك من يعالج بالصدمات الكهربائية، ويبقى أن الأساس هو البحث عن عافية الحياة وعن صحة المجتمع وعن منطقية الواقع والوقائع. أنا لا أؤمن بالشكل الخارجي الخام، والذي له جمالياته البصرية وليست لديه رسائله، وما يهمني هو الصورة دائماً، أو هو روح الصورة، أما الإطار الفارغ، حتى ولو كان من الذهب الخالص، فإنه لا يعني لديّ أي شيء، فأنا أحيا التمرد في حياتي وفي حياة مسرحي، ولكنني لا أرفع شعار التمرد، ولا أتخذه عنواناً فقط، تماماً كما أحيا الحداثة وأعيشها، في رؤيتي وعلاقاتي، من غير أن أدعيها وتسأل عن القالب، وروح المسرح في المسرح هو المسرح، وهو أكبر من كل قالب، لأن المسرح جوهره الحقيقة، والحقيقة لا يمكن اعتقالها، ولا تأميمها، ولا تلفيفها في العلب، ولا وضعها في الصناديق، وحده المسرح المدرسي هو الذي يبحث عن القوالب والقواعد ويلتزم بها، ووحدهم معلمو الشعر هم من يلتزمون بقواعد العروض، أما الشاعر الكبير فهو أكبر من العروض كما قال أبو العتاهية يوماً، ومن حق المسرحي أن يقول: أنا أكبر من القواعد ومن القوالب ومن الدروس المسرحية الجامدة، لا أؤمن بالحداثة.. كيف؟ أنا أؤمن بالأصيل، وما هو أصيل هو حقيقي، وما هو حقيقي هو عابر للأزمان والأمكنة وللثقافات واللغات والحضارات، ولهذا فإنني أؤكد دائماً على الحقيقة الأساسية التالية: وهي أن الفن الأصيل معاصر وحديث بالضرورة، وبالمقابل، فليس ضرورياً أن يكون كل هذا الفن المعاصر أصيلاً، وهذا ما يفسر أن تدخل كثير من التجارب المعاصرة والحديثة في خانة الموضة العابرة، التي لا يتعدى عمرها الشهور والسنوات القليلة .
 
* هل لديك ذكريات في بغداد، صداقات، مهرجانات، أو ما شابه ذلك؟
– أصدقائي في العراق، وفي مدينة بغداد بشكل خاص، كثيرون جداً، ومن أجيال متعددة بلا عدد، وذكرياتي فيها كثيرة جداً، ابتداءً من أول زيارة لها، التي كانت في صيف 1977 بمناسبة انعقاد مهرجان الشباب العربي، وكان لمسرحيتي (عطيل والخيل والبارود) حضور في هذا المهرجان، وذلك من خلال فرقة مسرح الطلائعي بمدينة الدار البيضاء بإدارة المخرج إبراهيم وردة، وفي تلك الزيارة حضرت عرض مسرحية (كلكامش) للأستاذ الراحل سامي عبد الحميد، والتي قدمها مع طلبة أكاديمية الفنون، كما شاركت في مهرجان بغداد المسرحي سنة 1985 بمسرحية (الدجال والقيامة) من إخراج المرحوم مصطفى التومى، ونالت المسرحية الجائزة الأولى للتأليف، كما قدم لي المخرج العراقي المرحوم هاني هاني مسرحية (الناس والحجارة) وكانت من أداء الممثل والمخرج  الصديق عزيز خيون، كما قدم لي المخرج البصري حميد صابر مسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) وقدمها المسرح القومي بعد ذلك المخرج حميد الجمالي، كما قدم لي الثنائي شامل ونيكار مسرحية (اسمع يا عبد السميع) باللغة الكردية، ويمكن أن أقول لك إن أصدقائي في العراق يفوقون عدد أصدقائي في المغرب، وبالمناسبة أترحم على أصدقائي المسرحيين الكبار. لروحهم السلام.