لماذا نقرأ الترجمات؟

ثقافة 2020/03/03
...

كتابة: بيرثولد فرانك
لماذا نقرأ الترجمات؟ أو لماذا لا يوجد أدب بلا حدود، ولماذا إن هذا ليس سيئًا على الإطلاق؟. فلنختصر الموضوع: «لماذا نقرأ الترجمات؟»، الجواب: «لأنه لا يمكننا قراءة جميع اللغات». نقطة رأس السطر. سؤال بسيط، وإجابة بسيطة ومتكاملة. وهذا، صدقوني من فضلكم، تصريح جادّ وليس بيانًا ساخراً أو لعوباً. إن الأمر هكذا: نحن جميعنا مولودون في بابل، وعلينا جميعًا النظر في كيفية الحصول على الأشياء الجيدة، وسيكون فعل إعاقة ذاتية أحمق فعلاً التخلي عن الكون الهائل من النصوص والأعمال في اللغات الأجنبية لمجرد أن معرفتنا بتلك اللغات محدودة بالطبع، وهذا كما أعتقد لا يحتاج شرحًا أوسع الآن.
هذا هو السبب في أن العديد من الحكماء عبّروا دائمًا عن امتنانهم وتقديرهم لجمع المترجمين الذين يجري التغافل عنهم في أغلب الأحيان، عصبة الرواد البارعين، ومستكشفي التبادل الثقافي العالمي الذين نادراً ما يكونون في دائرة الضوء، وغالبًا ما لا يتم تقديرهم بدرجة كافية. إنهم يساعدوننا على الخروج من القيود التي لا مناص منها في وصولنا إلى الأدب العالمي (Goethe: Weltliteratur)* وإلى حكمة وحقيقة النصوص من جميع أرجاء العالم ومن جميع الأجيال، فإليهم جميعًا نحن مدينون كثيرًا.
خصوصاً في بيتي، معهد غوتة: كم يمكنني أن أتعلم في مشاركاتي الدولية المختلفة من المترجمين الذين، من خلال عملهم المدقِّق (الشكّاك) والدؤوب، يقدّمون في غالب الأحيان مساهمات أكثر قيمة وأكفأ للحوار بين الثقافات من فيالق كاملة من الأمناء والمنظّمين ومدراء المجموعات الثقافية الدولية الأثرياء...
 
معايير الترجمة
الآن، هناك دائمًا بيانان قياسيان يخيّمان عندما يتعلق الأمر بالنوعيات المتميزة في الترجمة: الأول هو استعارة القارب، أو العبّارة التي تنقل النصوص من ضفة لغة إلى أخرى، والتي في نفس الوقت تعني خسائر التحويل التي يستحيل تجنبها، الفشل المبرمج الدائم لكل ترجمة بالمعنى الحرفي على مثال 1: 1 من اللغة الأصلية إلى اللغة الأخرى. هذا الزعم (أو الادّعاء) مُعلَن، وهو جوهرياً متخلَّى عنه، لأنه يسترشد بمفهوم خاطئ للغة، والتي تمتلك دائمًا خصائصها المتأصلة وترتبط برؤية العالم الثقافي للتحدّث الجماعي، وهي ليست ذاتها من واحدة لأخرى على الإطلاق. على سبيل المثال هذا العدد الكبير من تعابير الإنويت (شعب الإسكيمو) عن الثلج وغياب مثل هذه الكلمات في لغات المناطق المداريّة، غالباً ما يتم الاستشهاد به.المعيار الثاني البلاغي هو النجاح التناقضي للترجمة في إحراز مسعى أدبيّ خاص بها، كنتيجة للمشكلة المذكورة آنفاً. ما يُثنى عليه بعد ذلك هو التأثير الذي، في ضوء محدودية وظيفة المترجم، أي تقديم ترجمة 1: 1، يجبره على بذل جهد أدبي خاص به، والذي في النهاية، في بعض الأحيان على الأقل، ينتج أعمالاً مترجمة عظيمة بما يعني إعادة الخلق أو المشاركة في الإبداع. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك ترجمات شكسبير الرائعة التي كتبها أوغست فيلهلم شليغل في أواخر القرن الثامن عشر، والتي كانت مهمة للغاية ومؤثرة في استقبال الرجل الإنجليزي العظيم في ألمانيا، والتي اعتبرت كذلك بحق تحفة مستقلة في الأدب الألماني.
وعلى العكس من ذلك فإن هذا يعني، بالطبع، أن الترجمات يمكن أن تفشل أيضًا! يعلم الله أن بمقدورها ذلك، كما تظهر ثانية نماذج شهيرة جدًا، على سبيل المثال: الترجمة القياسية الطويلة الأمد إلى الفرنسية لكتاب نيتشة (جنيالوجيا الأخلاق)، والتي كان كل ثاني طالب فرنسيّ في الخمسينيات يحملها في جيبه، إلى أن أصبح معروفًا أنها كانت ترجمة سيئة للغاية، إلى درجة أن الفلسفة الفرنسية بأكملها في تلك السنوات، والتي تأثرت بقوّة بنيتشة، كانت تستند إلى سوء فهم. هذا ناهيك عن هايدجر، الذي فتن الفرنسيين أكثر حتى، والذي، بالمناسبة، لا يمكن ترجمته على الإطلاق، لأنه حتى الألمان لا يستطيعون فهمه. ومن هنا كان الالتزام الواضح الذي لا مفر منه وهو أن كل جيل يجب أن يترجم الكلاسيكيات العظيمة في كل مرة من جديد.
كل هذا معروف جيداً وقد قيل عدة مرات من قبل. لهذا السبب أريد أن آخذ هذه الأفكار خطوة أخرى إلى الأمام، متذكّراً لحظة جميلة شاركتها مع جو ليندل، وسونانديني بانيرجي، ونافين كيشور منذ فترة ليست طويلة في معرض فرانكفورت للكتاب، عندما طُبعت سلسلة ترجمات رائعة عن الكتب الأصلية باللغة الألمانية من قبل منشورات النورس Seagull Publishing، وقُدّمت تحت عنوان “مكتبة النورس للأدب الألماني”.
 
قوارب الكتب
كنت جالساً على المنصة بجانب نافين، وجو، وبعض المترجمين المهمين في هذه السلسلة، كان المخرج والمؤلف ألكسندر كلوج، الذي قدّم نفسه مع أربعة كتب في مجموعة “النورس”. ومن جديد كان يستخدم استعارة القارب، والمعبر. حتى أنه تكلم عن أسطول ينقل النصوص، ليس فقط من قارة إلى قارة، بل وحتى إلى أهم من ذلك، عبر العصور. قوارب كُتُب تشبه آلات الزمن! ومع ذلك، وهذا هو ما يهمني الآن، لم يكن يتحدث عن الترجمات بشكل خاص، وإنما كان يتحدث عن الكتب بشكل عام!
وبالتالي فهو يعطينا دليلاً مهماً عن موضوعنا: إذا أخذنا بالاعتبار ما هو مذكور أعلاه فيما يتعلق بالترجمات على محمل الجد، أي أن التزامهم غير المشروط بنص المصدر، وإخلاصهم للأصل، يقع دائمًا تحت التحفظ المنهجي لإمكانية الفشل، مما يعني أن الفرصة الوحيدة للترجمة الناجحة هي التعامل الإبداعي مع هذه المعضلة الحتمية أو التناقض الداخلي، فهذا يعبّر في الواقع ليس فقط عن مشكلة الترجمة وحدها، ولكن المعضلة الجوهرية في الأدب نفسه.
وهذا يعني، إذا أخذنا الأمر على محمل الجد: فإن كل نصّ، حتى النص في لغته الأم، يُفهم فقط ضمن حدود، وسيتم استقباله بشكل مختلف من قبل كل قارئ على حدة، ومع كل قراءة. في هذا الصدد، فإنّ كل قارئ هو مُترجِمٌ، والذي نحن نفهمه على الفور عندما نقرأ النصوص القديمة، على سبيل المثال عندما يتعين عليّ كألماني ترجمة نص ألماني قديم إلى لغتي الألمانية المعاصرة.
ولكن حتى أبعد من ذلك: لا ينطبق هذا فقط على فعل القراءة، ولكن على الكتابة أيضًا. أليست القضية هي أنه حتى إنتاج النص بلغة الكاتب الأمّ يقود دائمًا إلى محدودية قابلية المؤلف وإلى محدودية قابلية اللغة بشكل عام؟ ثمة قول شهير لفريدريك شيلر من عام 1797، والذي يقول في ترجمة تقريبية ما يلي: “إذا كانت الروح تتحدث، ومن ثمّ وا أسفاه! الروح لم تعد تتحدث”.
وهذا يعني حقيقة جوهرية وهي أنه لا توجد هوية آنيّة للعاطفة والتعبير عنها، بل هناك انفصال لا يمكن التغلب عليه. الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا للتعبير عن أنفسنا، بصرف النظر عن التعبير الجسدي المباشر (كالبكاء أو الضحك)، هي اللغة، والتي هي دائماً وأساسًا تفصل التعبير عن العاطفة نفسها.
 
الفردوس المفقود
هذه الحقيقة بالضبط هي التي تقال بطريقة مختلفة تماماً في قصة الفردوس المفقود. فالفردوس، هو تلك البراءة الناجمة عن وحدة المخلوق والطبيعة. الوحدة التي فُقدت إلى الأبد مع سقوط البشرية، الكائن البشري أضحى كائنًا ثقافيًا، مُلقىً في داخل الحضارة واللغة. وهو بهذه اللغة يحاول عبثًا، مرارًا وتكرارًا ودائمًا، علاج هذه الخسارة.
لذا، فإذا كانت الروح هي التي تتحدث، فلم تعد الروح وحدها، بل في الواقع اللغة نفسها هي التي تتحدث. وبالتالي، عن طريق معقد للغاية، هي في حقيقة الأمر جميع أولئك الذين تحدثوا وكتبوا برفقة هذه اللغة.
المؤلفون الأكثر حكمة أبلغونا دائمًا عن هذا الموضوع. والنصوص العظيمة تشهد دائمًا على ذلك، على معضلة الكتابة الكبرى، على الفشل، على التحدي الناشئ عن قيود ومحنة اللغة ذاتها. ولكن أيضًا، على لحظات النجاح العظيمة التي وقتئذٍ، نحن جميعًا نعرفها شخصيًا كقرّاء، عندما تحدث معجزة الأدب، عندما نقرأ ونشعر ونقول: “نعم، هذا هو بالضبط”.
وأنا أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث غالباً ونادراً بالقدر نفسه في النص الأصلي كما في الترجمة. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نطالب كلاً من المؤلف والمترجم بأن يكونا سيّدَي لغتهما.
والذي، من أجل العودة إلى ادعاء أو فرضية الأدب الذي لا حدود له، يجعل الأمور معقدة بعض الشيء: لأنه بقدر ما يمكن للأدب، سواء كان ترجمة أم لا، عبور الحدود، يجب أن يبقى بالضرورة ضمن حدود اللغة. مفارقة الأدب هي مفارقة اللغة، أن تكون حدودًا وترسيمًا للحدود، حرية وعزلة، طريقاً مسدوداً ورحلة في الفضاء، في نفس الوقت.
( النص الكامل للكلمة الرئيسية في النسخة السابعة من “مهرجان بوكمارك جايبور” في الهند، التي ألقاها بيرثولد فرانك، المدير الإقليمي لمعهد غوتة في جنوب آسيا. انضم بيرثولد فرانك إلى معهد غوتة عام 1988، ومنذ عام 2018 كان مديراً لفرع Max Mueller Bhavan في نيودلهي. وله العديد من المقالات حول الثقافة والسياسة ).
Scroll inn
هامش:
الأدب العالمي (Goethe: Weltliteratur): يشير مصطلح الأدب العالمي في سياق الكلام إلى مجموعة الآداب الوطنية القومية في العالم، ويُقصد به بشكل خاص بلوغ الآداب القومية المختلفة حضوراً عالمياً بفضل تطور وسائل الطباعة والنشر والنقل، إذ أحدث ذلك تأثيراً في واقع الآداب، وأخرجها من حدودها القومية الضيقة باتجاه العالمية، لتجتمع أرقى الأعمال الأدبية من مختلف الآداب تحت مظلة أدب عالمي واحد؛ فهو الأدب الذي اجتاز الحدود بين الدول، وترجم إلى كثير من لغات العالم، وحقق انتشارًا واسعًا وشهرة كبيرة، بفضل ما يمتلك من خصائص فنية، تتمثل في تصويره بيئته وتعبيره عن قضايا تهم الإنسان. غالباً ما استُخدم مصطلح الأدب العالمي لوصف روائع الأدب الأوروبي الغربي، وكان أوّل من صاغه هو الأديب الألماني غوتة. 
أما اليوم فقد أضحى مفهوم (الأدب العالمي) يشمل جميع بقاع العالم ولم يعد محصوراً بالأدب الأوروبي فقط.