المحطات الاعتقادية لمحمد عمارة

ثقافة 2020/03/03
...

د. عبدالجبار الرفاعي
  توفي مساء الجمعة 28-2-2020، في القاهرة، الصديق الدكتور محمد عمارة، تغمده الله برحمته الواسعة. أحزنني رحيلُه، على الرغم من اختلافي الفكري معه في محطته الاعتقادية الأخيرة، لأن خسارة المجتمع والعالم بفقدان العالِم تفوق كل خسارة.  لأننا محكومون بالتراثِ وقيمِه وأحكامِه، ترسخت لدينا تقاليدُ الاحتفاءِ المبالَغ به بالأموات، والإفراطِ في الثناء على آثارهم، والإعلاءِ من قيمة منجزهم، وتجاهلِ ما أنتجته هذه الآثارُ من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة، في حياتهم وبعد وفاتهم. 
  كتبتُ هذه المقالةَ بعد أن قرأتُ عشراتِ المقالات الرثائية للمرحوم محمد عمارة، الغارقةَ بالتبجيل والثناء، وبعضها كتبها باحثون أحترم تكوينهم المعرفي وخبرتهم الجادة بالتراث، وأعرف كتاباتِهم النقدية، لكن رهبةَ الموت والخوف من بطشه المفاجئ تربكنا لحظةَ موت الكبار، فنضطر لحذف كل ما يزعجنا في صورتهم، لأنّ الكبارَ في مخيالنا لا يموتون، فننسى كلَّ شيء كتبوه وفعلوه، وننشغل بتسطير مناقب أكثرها مفتعلة لهم. ارتكبتُ أنا ذلك قبل سنوات، عندما كتبت مقالة، كلها مناقب، لأحد أصدقائي، بعد أن أربكني الموتُ، فأنساني كلَّ أخطائه لحظة وفاته. 
   تقلّب محمد عمارة في عدة محطات اعتقادية، كان ينتقل منذ خمسينيات القرن الماضي من تفكيرٍ عقلاني واسع إلى تفكيرٍ ضيق، إلى أن أرستْ سفينتُه منذ سنوات عند التراث، الذي أمسى يتعاطى معه بمنطق مغلق يبدأ بالتراث وينتهي بالتراث، لا يرى رأيا خارج التراث، ولا يفكر تفكيرا خارج مداراته، ولا يصغي لسؤال خارج أسئلته، ولا يبحث عن جواب خارج أجوبته المكررّة، ولا يرى مسارا خارج مسالكه، ولا يقبل معرفةً في الدين خارج معارفه، ولا يقبل علما في الدنيا ما لم يكن ممهورا ببصمته. 
  كان محمد عمارة مفكرا ملتزما، عاش كلَّ حياته وفيّا لمعتقداته، يتحمّس في كل مرحلة من حياته الفكرية لما يتبنّاه من معتقدات، حتى لو كانت على الضدّ من معتقداته السابقة، ويكرّس كتاباته للدعوة إليها والتثقيف عليها.
  أعترف أنّ محمد عمارة كان مناضلا شجاعا في إعلان آرائه والدفاع عنها، ففي كل محطة اعتقادية ينتقل إليها، يتمسك بها بقوة، ويدعو إليها ويبشّر بها، سواء في مرحلته الماركسية التي قادته إلى السجن أواخر الخمسينيات أيام عبد الناصر، ومكث فيه لسنوات 1959-1964، أو في تحوله الى الاعتزال، وكتابة رسالته الماجستير سنة 1970 عن "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" في ضوء الدراسة والتحقيق لمجموعة "رسائل العدل والتوحيد"، وأطروحته للدكتوراه 1975 حول: "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة". أو في تحوله الى وسطي محافظ في عقيدته الدينية في الثمانينيات، أو رؤيته السلفية أخيرا للتراث، وتبنّي كل شيء في التراث على ما كان عليه، والتعاطي معه بوصفه منجما يزودنا بكل شيء تتطلبه حياتُنا في الدنيا والآخرة، وفي الحاضر والمستقبل. والتنكّر لكل علم ومعرفة تنتمي إلى العصر، بذريعةِ أصالة كل ما ينتمي للماضي، واتهام كل معرفة تنتمي للحاضر.
   يفرض محمد عمارة عليك أن تحترم عصاميتَه وزهدَه، فقد زهد بالوظيفة، وتخّلى عن التدريس بالجامعة طوعيا، كما يقول، لأنّه أراد أن يتفرّغ لمهمته الفكرية، كما حدّثني عن ذلك سنة 1998 قائلا: "آثرت منذ البدايات أن لا أهتم بالوظائف، وكنت أعتبرها لونا من الرق، فتحررت منها، وعكفت على مشروع الفكر والعمل التأليفي، ولم أذهب الى التدريس، لا في جامعاتنا، ولا في جامعات النفط والخليج والاغراءات المالية. عشت للمشروع الفكري".
   عندما كان يحلم بالثورة، على طريقة اليسار في مجتمعاتنا، حقّق ونشر سلسلةً مختارةً من أعمال رواد عصر النهضة، في سلسلة مجلدات في سبعينيات القرن الماضي، إذ نشر آثار: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي مبارك. وكتب عن شخصيات إسلامية متعددة، ونشر ذلك في كتاب كبير هو "مسلمون ثوار". وإن كان محمد عمارة عاش أكثر مراحل حياته الفكرية في سجن الايديولوجيا، لكن انتقالَه من سعة العقل المعتزلي ورحابته إلى انغلاق العقل السلفي واختناقه، يدعونا للتساؤل، ليس عن تكوينه المعرفي ومنطق تفكيره الذي كان يفرض عليه أن يهرب للماضي كلّما تقدّم به العمرُ، بل عن شيوعِ هذه الظاهرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، والبنيةِ العميقة لمنطق تفكير عدة مفكرين لم يجدوا ملاذا لهم، بعد تقدّم أعمارهم، إلّا بالهجرة الكلية إلى الماضي، بعد حياة فكرية في المراحل الأولى تسودها العقلانيةُ النقدية، وأحيانا الدعوةُ للقطيعة مع التراث لدى بعضهم.
  إنّ الرحلة الفكرية لمحمد عمارة لم تكن الاستثناءَ من مفكري جيله الذين تنقّل غيرُ واحد منهم في عدة محطات، إذ بدأ بعضُهم عقلانيا نقديا، متحرّرا وربما متمرّدا، يفكر في فضاء رحب، بلا أطر أيديولوجية، وبلا مرجعيات اعتقادية، وبلا قيود صارمة، وبلا حدود مغلقة، وبلا سقف نهائي تتعطل عنده كلُّ الأسئلة، وتموت فيه كلُّ الأجوبة. لكن عقل هؤلاء بدأ ينغلق بالتدريج مع كهولتهم وتقدّم أعمارهم، إلى أن غادر العقلُ تساؤلاتِه ومواقفَه النقدية وبصيرتَه النافذة، وجرأتَه في اقتراح الأجوبة، وكأن بعضَهم تابَ من إثمٍ عقلي ارتكبه، فدخل نفقا، أو آوى إلى كهف في المرحلة الأخيرة من حياته، يعتكف به، ليحتمي به من قلق الموت الوشيك الذي بات يهدّد شيخوختَه، ويلوذ بالماضي من وهن جسده، وضعف قدراته، وعجزه وغربته ووحدته. 
  الاحتماءُ بالتراث والدعوةُ للعودة لماضي الأمة وعلوم ومعارف الآباء هو المشترَكُ بين محمد عمارة وهؤلاء المفكرين التوابين من إثم التفكير العقلاني، ومشترَكٌ آخر ينصبّ على التحذير من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، بذريعة أن تراثَنا يختزن كلَّ ما تتطلبه حياتُنا، وكلَّ حلول مشكلاتنا، وأنّ المعرفةَ والعلومَ الحديثة ما دامت وُلدت في بيئة غربية، فهي غريبةٌ عن معتقداتنا وثقافتنا وبيئتنا ومشكلات عالمنا. وهي ذريعةٌ يردّدها كلُّ هؤلاء، بأساليب متنوعة وعبارات مختلفة، وصياغات ملتوية أحيانا، تتوحد في أنها تدعونا لأن نرفض كلَّ معرفة أنتجها العقلُ البشري خارج عالَمنا، بنحو أمسى تكرارُها المبتذَل في كتابات القوميين والإسلاميين يصيبك بالغثيان، فهم ما زالوا يردّدونها منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.  وهذه الذريعة يكذّبها الواقع، فلا نحن اكتشفنا فلسفتَنا وعلومَنا ومعارفَنا التي تستجيب لواقعنا، وتولد في سياقات ديانتا وثقافتنا وهويتنا وخصوصيتنا وراهن مجتمعاتنا، ولا نحن تحرّرنا من عقدة الارتياب من العلم والمعرفة الحديثة. 
   في المعرفة والعلم الحديث ما هو كوني عابر لمعتقد وثقافة الإنسان الذي اكتشفه. إنه يعبّر عن جوابٍ لأسئلة الحياة واحتياجات الإنسان، بغضّ النظر عن الزمان والمكان الذي يعيش 
فيه. 
الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة أعادت تشكيلَ العقل الذي قدّم للبشرية كلَّ هذه الاكتشافات الباهرة، ووضع الإنسانَ في مسار جديد، مكّنه من أن يكون أشدَّ حذاقة في إجابة أسئلة الطبيعة الصعبة وتحدياتها المنهكة، وأذكى في إجابة أسئلة حياته الحائرة.  كان محمد عمارة من أغزرِ الكتّاب الإسلاميين إنتاجا، وأكثرِهم مثابرة، وأغناهم تنوعا، بلغت آثارُه نحوَ 250 عنوانا في مختلف الموضوعات. ففي كل مراحل حياته الفكرية ومحطات اعتقاده سجّل حضورا لافتا في الصحافة والدوريات ودور النشر. 
  مواقفُه في ربع القرن الأخير من حياته لا تطيق المختلِف في اجتهاده، كموقفه الشديد من فكر صديقنا المرحوم نصر حامد أبو زيد، ولا تطيق المختلِف في معتقده. وكأنه لا يعرف أن الله مطلق، لكن معرفة الإنسان بالله نسبية، لأنها محدودة: بوجوده المحدود، وطبيعته البشرية، وآفاق وعيه، وثقافته، ونمط رؤيته للعالم، والزمان والمكان الذي يعيش فيه، وإنّ نسبية معرفة الإنسان بالله تعني تنوع وتعدد الطرق إلى الله. 
  يعرّف محمد عمارة الكفرَ، في كتابه: "فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية"، كما ينقل عن الغزالي، هكذا: "الكفر هو تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام في شيء مما جاء به، والإيمان بتصديقه في جميع ما جاء به، فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا لأن الكفر حكم شرعي، كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي، فيدرك إمّا بنص أو بقياس على منصوص، وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى.". يتبنى محمد عمارة هذا التعريف ولا ينقده أو يناقشه، لذلك أثار كتابه هذا ضجة كبيرة عند صدوره.يستخدم محمد عمارة لغةَ هجاءٍ عنيفة في الحديث عن المفكر الذي لا يستسيغ أفكارَه أحيانا، فمثلا يصف سلامة موسى بالوقاحة والنفاق، عندما يقول: "هكذا تكلم سلامة موسى، فبلغت صراحته حد الوقاحة، وكانت له فضيلة الإعلان عن كثير مما يبطن المنافقون من المتغربين".