ماكرون والحرب على مروّجي الفكر المتطرف

آراء 2020/03/03
...

عبد الحليم الرهيمي
 
اتخذ الرئيس الفرنسي عمانوئيل ماكرون، في الحادي والعشرين من فبراير – شباط المنصرم، عدداً من الاجراءات التي تقضي بالحد من نشاطات دعاة ومروجي الفكر المتطرف في فرنسا عبر ملاحقة وتشديد الرقابة على المؤسسات والمراكز الثقافية و (أماكن العبادة) التي أسسها ويمولها ويوجّه معظمها دعاة ومروجي الفكر المتطرف.
 ويشرف عليها وتدعمها دول عديدة تأتي تركيا وقطر في مقدمتها، إذ تستخدم تلك المراكز والأماكن للدعاية والترويج لذلك الفكر لتسهيل عملية تجنيد الشباب من الجاليات الإسلامية والعربية خاصة، للانضمام إلى المنظمات الإرهابية في فرنسا وغيرها من البلدان الغربية.
هذا التوجه الجديد واللافت للرئيس الفرنسي وحكومته يطرح تساؤلات عددية بشأن الأسباب والدوافع التي دعت لاتخاذه في هذا 
الوقت. 
والواقع أنّ قيام الرئيس الفرنسي باتخاذ تلك الاجراءات إنّما يستند إلى أسباب ومسوغات سياسية واجتماعية واقعية عديدة، يأتي في مقدمتها شعور وتقدير الدولة الفرنسية وتشخيصها خطراً يواجهها ويداهمها بمحاولات اختراق أمنها وسلامتها ونسيجها الاجتماعي وقوانينها ونظامها العلماني الليبرالي المدني على يد جماعات الإسلام السياسي ممثلة بحركة "الأخوان المسلمين الدولية" ومؤسساتها في فرنسا، كما في دول أُوروبية أخرى، التي تدعو وتروج للفكر المتطرف المؤدي 
للأرهاب.
وانطلاقاً من رؤية وطنية وأمنية للخطر الذي تواجهه الدولة الفرنسية ونظامها العلماني ومجتمعها، لخص الرئيس ماكرون استراتيجية بلاده لشن الحرب على الفكر المتطرف ودعاته بمحاور أربعة أساسية هي: الصراع ضد النفوذ الأجنبي في المدارس وأماكن العبادة، إعادة تنظيم عبادة المسلمين بالتوافق مع مبادئ العلمانية والقانون الفرنسي، مكافحة جميع تمظهرات الانفصالية الإسلاموية والطائفية، وأخيراً إعادة فرض سيطرة الدولة على جميع الأراضي الفرنسية.
ويتقدم تأثير النفوذ الأجنبي ومكافحته بالاهتمام على المحاور الأخرى لاستراتيجية ماكرون إذ يتجلى ذلك بأعادة النظر بالسماح لتسع دول هي كل من (الجزائر، كرواتيا، إيطاليا، المغرب، إسبانيا، صربيا، البرتغال، تونس، وتركيا ) بأرسال معلمين الى فرنسا من أجل تأمين دروس في الثقافات واللغات الأجنبية من دون رقابة السلطات الفرنسية إذ يتم ذلك وفق برنامج تبادل الأساتذة الذي يدعى اختصاراً باسم (ألكو) وهو ما تستغله كل من الجزائر والمغرب وتونس وتركيا لإرسال المئات من (الأئمة) الى فرنسا، والذين يرتبط معظمهم بالسلفية أو الأخوان المسلمين ويبشرون بما يناهض قيم الجمهورية الفرنسية، وذلك وفقاً لحديث الرئيس الفرنسي الذي عبر عن عزمه على استبدال (ألكو) باتفاقيات ثنائية في سبتمبر – أيلول المقبل وهو الأمر الذي وافقت عليه دول (ألكو) باستثناء تركيا التي رفضت التوقيع على الاتفاق الجديد، إذ لا يناسب ذلك الحكومة التركية التي تدير شبكة واسعة من المساجد في فرنسا تحت رعاية مديرية الشؤون الدينية التي يسيطر عليها شخصياً الرئيس التركي أوردغان. 
وإزاء ذلك وضع الرئيس الفرنسي تركيا بين خيارين أمّا اتّباع ذلك المسار معنا (الاتفاقيات الثنائية)، أو إنني لن أسمح لأيّة دولة أجنبية بتغذية انفصالية ثقافية أو دينية مرتبطة بالهوية على الأراضي الفرنسية ولا يمكننا السماح بالقوانين التركية أن تسري على التراب الفرنسي، فهذا مستحيل!
لا شك أنّ الاجراءات التي اتّخذها وسيتخذها الرئيس الفرنسي ضد دعاة ومروجي الفكر المتطرف من جماعات وجمعيات الأخوان المسلمين ودور تركيا وقطر في ذلك تمثل حرباً على هذا الفكر المتطرف، وهي أيضاً ليست فقط بمثابة إنذار للفرنسيين والبريطانيين وحدهم، بل لدول أوروبا على وجه التحديد التي أصبحت دولها وشعوبها تعاني من تمادي دعاة ومروجي الفكر المتطرف ومجموعات ومؤسسات في 
بلدانهم. 
وبالطبع فإنّ نجاح فرنسا والدول الأوروبية بهذه المواجهة والتصدي للفكر المتطرف يتطلب الاستمرار في الملاحقة الأمنية والاستخبارية لتلك الجماعات، والعمل، بموازاة ذلك، على الصعيد الفكري والثقافي المضاد الذي يقوم على تفنيد ومحاربة ذلك الفكر بكل المؤسسات التربوية والتعليمية، والقيام، مقابل ذلك، بنشر وتعميم الفكر الاسلامي المعتدل المتمثل بالتسامح وقبول الآخر والاعتراف بالتنوع والتعايش السلمي بين البشر.
ولعل من اللافت والمهم أيضاً أنّ حملة الرئيس الفرنسي على الفكر المتطرف ودعاته ومروجيه داخل فرنسا وخارجها تترافق مع حالة الانهيارات التي لحقت وتلحق بجماعات حركة الأخوان المسلمين، والمتمثلة بسقوط حكم الأخوان في مصر الذي ترأسه الراحل محمد مرسي، وحكم الأخوان في السودان الذي ترأسه المدان قضائياً عمر البشير، وتراجع شعبية وحضور هذا التيار مؤخراً في تونس والجزائر واحتمالات سقوطه أيضاً في ليبيا، وربما في أماكن وبلدان 
أخرى .
إنّ الدلالة المهمة التي تنطوي عليها حرب ماكرون على دعاة ومروجي الفكر المتطرف ومرجعياتهم في فرنسا، وفي أوروبا استطراداً، إنّما هو تدشينها مرحلة جديدة، كما يبدو، للحد من انتشار وتأثير هذا الفكر في الأجيال الشابة في تلك البلدان، والمترافقة مع انحسار وضعف هذا الانتشار والتأثير في بلداننا العربية والاسلامية بما يمهد لانقراضه.