جواد علي كسّار
الموت سنّة وجودية، ومعناه باختصار تجريف الحياة، لكن مع ذلك لفت نظري عدد من الشخصيات التي غادرتنا هذه الأيام، لاسيّما من لها صلة بالجانب المعرفي، فلم نكد نستفيق من صدمة غياب العالم والباحث خسروشاهي من إيران، حتى شاع خبر وفاة المفكر المصري محمد عمارة، وفي ما لم يُسدل الستار بعد على رحيل محمد عمارة، جاءنا من دمشق خبر موت المؤرخ المرموق سهيل زكار، دون أن ننسى من القاهرة أيضاً، أخبار الحالة الصحية الحرجة للمفكر المتميّز حسن حنفي.
بين هذا وذاك مرّ علينا دون اهتمام كبير، خبر وفاة سياسي إيراني متقاعد هو محسن كونكرلو، مع تذييل يفيد أن برحيل هذا السياسي، غاب الصندوق الأسود لملابسات قصة زيارة ماكفرلين إلى طهران عام 1986م، وما اكتنفها من أسرار، كان كونكرلو قد وعد بنشرها في كتاب مستقل، حين تكون الأوضاع مناسبة لذلك، انطلاقاً من موقعه كمستشار أمني لرئيس الوزراء السابق مير حسين الموسوي، ومن بعده للرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني. وعلى ذكر رفسنجاني العرّاب الأكبر لزيارة ماكفرلين؛ فقد تحدّث مرّة أن أوراق هذه القضية كوّنت ملفاً كبيراً من مجلدين ضخمين، لو بادرت طهران لإصداره كما اقترح رفسنجاني، لصار من أوسع الكتب انتشاراً.
بالعودة إلى المعرفيين، فقد كتبنا متابعة يسيرة عن خسروشاهي، وتكفل صديقنا الرفاعي تغطية رحيل محمد عمارة، وبقي أمامنا سهيل زكار. قبل الحديث عن زكار أودّ التنبيه إلى عناصر مشتركة بين هؤلاء الثلاثة، كان في طليعتها الجَلد والجدّ والمثابرة والصبر على المعرفة، مع موسوعية بارزة تشهد عليها آثارهم، ومرابطة على الإنتاج حتى آخر أيامهم، مقرونة بأعمار طبيعية طويلة، وعمر معرفي بين خمسين إلى ستين عاماً، دون أن نغفل العصامية الفذّة التي انبسطت عليهم جميعاً!
من عناصر عصامية سهيل زكار مثلاً، قصته في تعلم الإنكليزية بزمن قياسي، حتى تحوّل إلى مترجم بارز ومشرف على ترجمات مهمّة عن هذه اللغة. وكذلك محطاته في التعلم سواء داخل بلده سوريا أو في بريطانيا، اضافة إلى مواقفه المتميّزة من أستاذه برنارد لويس، وأخلاقيته العلمية الرحبة مع تلاميذه، لاسيّما في الدراسات العليا.
لا ريب أن موسوعية هذا الرجل برزت واضحة في موسوعته الخمسينية عن الحروب الصليبية، لكن له إلى جوار ذلك بصمات قوية في الدرس التأريخي، نشهدها في كتابه عن إمارة حلب وآخر عن القرامطة، والمدخل التحليلي النقدي الذي كتبه عن الحروب الصليبية، والمختارات التي قدّمها من كتابات المؤرخين العرب، وكتابه الذي أتحفنا به عن المئة الأوائل في تراث المسلمين.
لكن يبقى جهده متميّزاً مع المؤرخ العراقي البصري ابن خياط، فقد كان الراكز في ذهني وأمثالي، ممن يتعامل مع التأريخ تعاملاً ثقافياً غير اختصاصيّ، أن بداية التأريخ الموسوعي بمنهجية الحوليات، قد ارتبطت باليعقوبي وتطوّرت مع الطبري والمسعودي، إلى أن بدّد هذا اكتشاف تأريخ ابن خياط المتوفى 240ه، والجهد المتميّز الذي بذله زكار إلى جوار آخرين، في إحياء تأريخ ابن خياط وطبقاته.
لقد رحل سهيل زكار ومكتبته الخاصة تحوي بين (30) إلى (35) ألف كتاب، وحين سُئل مرّة عن نسبة قراءاته، ذكر أنه قرأ أكثر من 50 % من هذه المكتبة؛ رحل وكانت القراءة قد رافقته حتى آخر حياته!