هل السرد كذبة، والسارد مختلق أكاذيب؟ وأيّهما أعذب، سرديات الواقع أم اختلاق واقع يحمل جمالياته الخاصة على أنقاض قبح الواقع اليومي؟. وهل أعذب السرد أكذبه؟.. أسئلة كثيرة أقلقت تفكيري وأنا أقرأ نص "حسن النواب" الشاعر والسارد "ضحكة الكوكوبارا" التي فازت بجائزة الطيب صالح للرواية العام الفائت.استوقفتني عتبة النص، فإنّي لم أسمع بـ "الكوكوبار"، عرفت أنه طائر ميزته السرقة، وهو ليس كصقر بيت فليح، إنه يسرق من الآخرين أشياءهم، ويمتاز بضحكته المميزة في الغروب وعند الفجر، لا تتّضح هذه العتبة السردية ودلالاتها في النصّ بوصفها عتبة وخطاباً إلّا بعد الانتهاء من قراءة هذا العمل وإعادة التفكير من جديد في تشكيل النصّ وفق عتبته وخطابه الخاصّ، وليس عبر المتوالية السردية للحكاية أو مجموعة الحكايات المحيطية.
كيف يتمكّن السارد من خداع المتلقي؟ يتلاعب بمشاعره؟ أم يستدرّ عطفه للإمساك به وجذبه للتواصل مع مجريات الحكاية؟ نرى في هذا النصّ السردي تعدد طبقات السرد وتنوّع الأساليب وتعددية الأصوات في عرض تلك الحكايات التي تأخذ في التلاعب بمشاعر المتلقّي بين المصدّق والمكذب والمشكك بتلك الوقائع، وبين أن يكون مع هذا الصوت أو ذاك متعاطفاً أو معارضاً، وتحمل جملة الاستهلال في ثناياه اعتراف وتقرير واقع حال، واعتذاراً من المتلقّي".خلال أيام أو بعد ساعات لا أدري بالضبط، سأخضع إلى عملية جراحية معقدة، لانتشال شظية أصابت رأسي في حرب ماضية، الشظية بدأت توخز عصباً في الدماغ يتحكّم في الإدراك؟ ربما أفيق من العملية الخطيرة بلا بصيرة وقد خمد سراج عقلي إلى الأبد، ولذا أطلب من الناس الشفقة إذا أبصروني بأسمال رثّة أشعث الشعر، هائما على وجهي في الشوارع، مثلما ألتمس العذر منهم إذا هجوت أحدهم بلا سبب وأحرجته في مكان عام، فلا عتب على مجنون". "الرواية-ص2".
هذه الجملة الابتدائية هي من مدوّنة "نذير الأسمر" الذي يكتب المتن الحكائي وهو الصوت الأول في هذه المدونة السردية، هذه المدوّنة تُقرأ بعين متلقٍّ ضمني، يعود إلى تشكيل الحكاية وفق معطيات الوقائع المعاشة، فيما هناك متلقٍّ خارج نصّ، يقرأ مايحيط بتلك الحكايات من واقع، إذ تقرأ أميليا المتلقّي الضمني مدونة "ثمة أمل"، فيما يقرأ المتلقّي في مدونتين هما "ثمة أمل وضحكة الكوكوبارا".بين مدونتين تنساب الحكايات لتشكّل سردية ممتعة امتازت ببنية فنية متماسكة أعادت صياغة الحكايات الواقعية بلغة شاعرية تزيل قبحها وتبرز إشعاع جمالها، لتصل بنا إلى جملة الختام "لم يعرف رياض الحوراني أنّ طائر الكوكوبارا أطلق أغرودته الغريبة مبشّرا بانبلاج الفجر، بينما كان نذير الأسمر بأسمال رثّة أشعث الشعر حافي القدمين يذرع بلا هدى أرضية فناء أمام شقة أميليا، ويكركر بين حين وآخر مثل طائر الكوكوبارا، وقد انطفأ قنديل رأسه إلى الأبد". "الرواية-ص 185".
بين هاتين الجملتين الافتتاح والختام تنساب الجمل السردية العذبة لتحقق لدى المتلقّي الداخلي عذاباته وتشتّته وانفعالاته، ولدى المتلقّي الخارجي متعة التشويق في تتبع مجريات سرد الحكايات في المتن العام، إذ تتّضح من خلال ماتقدم من بيّنات سردية مركّبة ومتداخلة خيوط الصنعة السردية الماهرة التي قامت بتشكيل هذا العمل السردي، فقد ارتكز بناؤه السردي على المرتكزات الآتية:
أولاً: تعددية الصوت السردي.
ثانية: تنوّع وتعددية الحكايات الساندة والمناهضة للحكاية السردية.
ثالثاً: التلاعب في المدوّنة الرئيسة للنصّ.
رابعاً: التلاعب في رسم الوقائع الحياتية.
خامساً: شعرية سردية خالية من التكلّف تدلّل على القدرة العالية في الصياغة السردية للمتون الحكائية.
تتناوب الأصوات السردية في إضاءة جوانب من الحكاية أو إضافة ما حذف منها من قبل "نذير الأسمر" الذي تلاعب بمدوّنة "رياض الحوراني" الذي قام بتغيير مهنة وبعض أماكن الأحداث، واستبدل الأسماء الحقيقية بأسماء أخرى، كلّ ذلك من أجل أن يشكّل مادته السردية بالطريقة التي يرتئيها لتحقيق أغراضه الخاصة، إلّا أن شكوكاً راودتها بأنّ "نذير الأسمر يعرف رياض"، "ص113"، وتطابق أحداث مروّية "نذير" مع وقائع حياتها وعلاقتها برياض الذي غُيّب في سجون الوطن، أميليا بعد أن تركت أمل في بلادها أرادت أن تعيش بسلام بعيداً عن الجميع إلّا أن هذه الرواية قد "أتعبتها وبعثرت أفكارها وأوجعت معاقل وجدانها". "ص129".
إلّا أن ما كان في الواقع من مجريات ليس كما هو في مدونة "الحواني– ثمة أمل" وليس هو أيضا كما في مدوّنة "الأسمر" الذي يسرد لنا الحكاية من خلال صوته وصوت أميليا ولا هي "مدوّنة النواب" كما أوردها لنا في "ضحكة الكوكوبار"، وإنّما هي مجموع تلك الحكايات السردية مجتمعة في ذهن المتلقّي الذي أعاد سرد وبناء وتشكيل الحكاية من جديد، وذلك لفكّ الاشتباك وإزالة الالتباس المقصود وغير المقصود ليكتشف في النهاية أنّ "الشاطر حسن" كاتب الأعمدة التي عشقت سطوره هو كلّ تلك الشخصيات مجتمعة وهو الحكاية كلّها.
هذا النصّ السردي يشكّل للشاعر والسارد "حسن النواب" خطوة متقدّمة بشكل واضح عن تجربته السابقة "حياة باسلة"، وهو الأمر الذي يشكّل حافزا على أن نثق بقدرات هذا الكاتب وماسيقدّمه في المستقبل من نصوص سردية تحمل بصمته الخاصة.