بعد انصرافي بضع سنوات الى قراءة عشرات المباحث العلمية والطبية التي تتناول موضوع الاحلام، وما هي وكيفية تكوّنها وكم من الزمن تستغرق، خلصتُ الى إنها لا تعدو عن كونها مجموعة انعكاسات لأحداثنا اليومية، او لأحداث يمكن أن تكون قريبة او بعيدة جداً قد تعود الى الطفولة، يختزنها العقل الباطن... هذا الى جانب الكثير من الاماني والطموحات المشروعة واللامشروعة.. والكثير مما لا نستطيع البوح او التصريح به، ومن هذا الخليط تتركب صورة الحلم وتبدو احياناً وكأنّها لوحة سريالية..
قبل زمن يسير وأنا اتابع حواراً على احدى الفضائيات اقرب ما يكون الى (عركة الشوارع)، وقد تصاعدت حدة النقاش حول (الاجندات والارادات الخارجية) حتى تحولت الى كلام بذيء ومفردات مخجلة، ولكوني سئمت مثل هذه الحوارات، بل والحوارات السياسية جميعها الى حد القرف والملل، فقد الغيتُ صوت التلفاز والتفت الى صغرى حفيداتي وسألتها من باب المداعبة انْ كانت تعرف ما هي مفردة (إرادات) – وهي تلميذة في الصف الرابع الابتدائي – وعجبت لأنها اجابتني بسرعة (إرادة) وواصلتْ بأن هناك تلميذة معها في الصف نفسه اسمها (إرادة محمد)، وقد اخبرتهم المعلمة إن المثنى هو (إرادتان) والجمع (ارادات) ... عندها فقط ادركت سر ذكائها الغريب!!
ذهبتُ في تلك الليلة الى فراشي مبكراً بعد شعوري بمغص حاد في المعدة وتناولي قرصاً "مسكناً" ساعدني على النوم بعد اقل من نصف ساعة، وسرعان ما رأيت فيما يرى النائم انني شاب في العشرين من عمري، وقد عدتُ الى وظيفتي القديمة معلماً في مدرسة "النهروان" القروية، ذات البناء الطيني والتي باشرتُ مهنة التعليم فيها لأول مرة عام 1965..
الغريب ان اي شيء لم يتغير، الغرف الاربع التي لا تفي بالغرض، ولذلك تم دمج الصف الاول مع الثاني في غرفة واحدة، وكذلك الثالث والرابع، ولم تتغير السقوف الواطئة من جذوع النخيل والتي لا تحمي التلامذة في الايام الممطرة، والساقية المجاورة للمدرسة، والمعلمون ورشيد اليازع (ابو فيصل – فراش المدرسة).. كل شيء كما رأيته وعشته.. الحلم لم يغفل اي تفصيل، ولم يغيرّ اي شيء... (عرب) النهروان الطيبون، والساحة الترابية و..و.. التلامذة فقط هم الذين تصرف الحلم بهم، فالمدرسة المختلطة التي كان مجموع تلامذتها (54 تلميذاً)، إثنان منهم (إناث) و(52) من الذكور، اصبح عددهم في الحلم (56) تلميذة.. الجميع اناث.. امر غريب .. والاغرب ان جميع التلميذات يحملن اسماً واحداً هو (إرادة)، والتمييز يتم عن طريق الاب او اللقب!!
كانت خطوتي الاولى حين دخلت الصف (وهو الصف الوحيد في المدرسة) ان اقوم بتسجيل الغياب والحضور، وهكذا كنت انادي على الاسم واسمع كلمة (حاضر) (إرادة الجاف) (حاضر) (ارادة اللامي) (حاضر) (ارادة الدليمي – ارادة عبد الحسين- ارادة عبد القادر - ... الخ) وكان آخر الاسماء هو (ارادة العراقي) ولم اسمع كلمة (حاضر) مع إنني كررته ثلاث مرات، وفي المرة الرابعة جاءني الرد من التلميذات جميعهن بصوت واحد ارتجت له الجدران الطينية، (غائبة) فشعرت ان روحي غادرت جسدي واستيقظت فزعاً، ومنذ تلك الليلة لم اعرف طعم النوم!!