الجَسدُ فيلسوفٌ صامت

ثقافة 2020/03/07
...

 محمد الحدّاد
 
ما الذي يستطيعه الجَسَد؟ هذا السؤال السبينوزي النيتشوي البسيط حد السذاجة.. المعقد حد الوَهم..أتراه يخفي في مغزاه مَكراً سسيولوجياً؟ ما تلك الدهشة الفارهة التي يشي بها ظاهرُ السؤال؟ هل تؤشرُ لحيرةٍ حقيقية تنمُّ عن نقصٍ فادحٍ في فكِّ طلاسمِ الجَسد أم تراها تستبطن خبثاً معرفياً يستدرجُ المتلقي ويغريه لمزيدٍ من بحثٍ غائرٍلا ضامنَ ألا يتيه بهِ بعيداً في الأعماق؟ بدلَ أن يُقالَ مثلا: ما الذي يستطيعه الإنسانُ أو..جَسدُ الإنسان؟ أوَ ليسَ ذلكَ ما عناه نيتشة ومن قبلهِ سبينوزا بسؤاليهما الاشكاليّ العتيد؟
ابتداءً..لنتفق معاً أنهُ سؤالٌ إشكاليٌّ مُلتبس..يتجاوزُ قطعاً تخومَ الغريزةِ البدائيةِ والشهوةِ الحسّية مع أننا جميعاً يتقدمنا هذان الفيلسوفان نعترفُ أن قدراً كبيراً من جُهدِ الاجابةِ سيظلُّ يحو مُطويلاً حولَتلك التخوم مضمّناً اياهُ بعضاً منمعانيها التقليدية.
الجسدُ فيلسوفٌ صامتٌ يضجُّ بالحكمة..ترجمانٌ حاذقٌ مُحترِفٌ حدَّ التفرد.. يجيدُ التحدثَ بكلَّ اللغات في وقتٍ واحد"وتلكَ أغنى كنوزه" ومع كلِّ ذلك إذا جدَّ الجد يصعبُ ترجمة ما يقولُ وما يقالُ لهُ مع أنَّ لغتهُ سهلةٌ طيّعة.
مسكينٌ حقاً هذا الجسد..ينتصفُ المسافة بين خوفين-نارين..واحدةٌ على الأرضِ وثانيةٌ في السماء..لا يستطيعُ دفعَ الأولى عنهُ حتى لو تزيّا بعُريهِ المَحض كغاندي..وأخرى مُغيّبة موعودٌ بها في سماءٍ بعيدةٍ قريبة فيآن..بعيدة مع فرطِ قربهاوقريبة مع فرطِ بُعدها ولا يحتاج لنجاتهِ إلّا أنْ يتحوّطَ منها دوماً بكشفٍ خاص لا يتيّسر إلّا لِمَنْ أتقنَ حكمة الترويض.لكنْ بعيداً عن مواءِ قططهِ وفحيحِ ثعابينهِ وعواءِ ثعالبهِ ما الذي يستطيعهُ جسدٌ حقاً؟ فالجسدُ يفعلُ كلَّ شيء: يتكلمُ..يهذي..يتفلسفُ..يرقصُ ويغني..يضحكُ ويبكي..يقتلُ ويبني..إذا تهوّرَ انفردَ بتحولهِ في لحظةٍ إلى أظلمِ وأقسى وأبشعِ خلقِ الله..مع أنهُ إذا ندمَ أو أصابتهُ نفحةٌ من خجلٍ عابرٍ انفردَ أيضاً دونَ المخلوقاتِ باحمرارِ وجهه! لكنَّ أسمى ما يستطيعهُ فعلا أنْ يُكذّبَ ألسنةً لا تفتأ منذ طينتهِ الأولى تُذكّرهُ بفنائهِ القريب..أنْ يُكذبها بخلوده! أنْ يُهشمَ باستمرار أوثاناً من المسلّماتِ تُلقى في دروبه..تسخرُ من عَجزهِ وتبعيته..أن ينتصرَ بطينهِ المجذوب دوماً إلى أمهِ الأرض..على جاذبيتها التي لا تملُّ من تذكيرهِ أيضاً وهي تشدّهُ إليها حيّاً وميتاً بأنهُ طفلها المُدلل..الأول والأخير ولا بدَّ يوماً ما من رجوعهِ إلى أحضانها.
لكنْ كيفَ يتمُّ لهُ كلّ ذلك وهو المُكبّلُ سَلفاً بسلاسلِ الغيابِ المحكومِ بركوبِ موجاتها الأثيرية في أيةِ لحظةٍ حين يذوب فيها لحمهُ ويجفُّ دمهُ ليعودَ كما بدأ أولَ مرةٍ في أزلهِ البعيد إلى حفنةِ تُراب؟ ولكي نفضّ التباسَ كل تلكَ الأسئلةِ ينبغي العودة قليلاًإلى ذلكَ الأزل البعيد لنسأل: أيُّ الجسدينِ تكلمَ لغة خلودهِ أفصحَ من الآخر..لغة قابيل أم لغة هابيل؟ لغة القاتلِ دوماً أم المقتولِ دوماً؟جسدُ الحسينِ أم سيوفُ قاتليه؟ هذهِ اللغة لا تكفُّ أبداً من إرسالِ أجوبتها إلينا لكنها لغة وصلتْ"للأسف" مضرّجةًبلونِ الدم..لغةٌ نطقتْ بها أجسادُ الشهادةِ ووصلتْ أقصى العالم قبل أنْ تنامَ سيوفُ القتلةِ في أغمادها.
باستطاعةِ جَسدٍ نحيلٍ وأعزلٍ كجَسدِ غاندي أنْ يفعلَ المستحيل:
لقد صامَ هنديٌّ فجوّعَ دولةً فهل ضارَ عِلجاً صومُ مليونِ مُسلمِ؟
يا للمُفارقة! غاندي..هذا الجَسدُ العاري الأسير حينما حرّكَ في أمتهِ رغبة الفعلِ والتغيير حرّضَ مخيلتها النائمة على الاستيقاظِ والاحتجاج بأجسادها الناحلةِ فخرجتْ لتخلعَ كلَّ شيءٍ وتتزيا بمحضِ جلودها السمراء لتتسلحَ بها وحدها..فأضربتْ أجسادُ الهندِ كلها عن أنْ تكتسي ثيابَ ذلٍّ بريطانية فكانَ لها ما أرادتْ فتعطلتْ مصانعُ المستعمر البريطاني.
الجسدُ يفعلُ الكثير..في الأدبِ عَبرَتْ شفراتُ الجسدِ دوماً حواجزَ السجونِ والغيابِ والموت..صُراخُ الأجسادِ المغيّبةِ التي أخرَجها ديستوفسكي من قعرِ سجونِ الإمبراطورية الروسية في روايتهِ "ذكرياتٌ من منزلِ الأموات" وصلتْ آخرَ شبرٍ من روسيا بل العالم كله..لكنَّ الأهم أنها وصلتْ إلى قيصر روسيا نفسهِ باني تلكَ السجون فأبكته! حتى أنهُ من فرطِ تأثرهِ بها أصدرَ فورَ قراءتها مرسوماً يُلغي بموجبهِ أيَّ نوعٍ من التعذيبِ الجسدي في سجونِ روسيا كلِّها! تلك بلاغة لغة الجسدِ لو انطلقتْ فستصلُ حتماً ولو محمولة بعربةِ الكلمات.لكنْ في مقابلِ ذلكَ كلهِ تعترضُ طريقَ هذه اللغة الراقية صخور صماء كثيرة تمنعها من الوصول الى غاياتها الراقية تلك..أهمها: اختناقُ الجسدِ بمخالبِ الحضارةِ المقيتةِ والمدنيةِ المُفرطةِ في انعزاليتها المُتعالية..ثمَّ انشغالهِ المقزز بنفسه..تلك اللعنة التي يتجسّدُ الخوفُ الإنساني فيها مُركّباً أو مجتمِعاً بين الخوفِ من الذاتِ ومن الآخرِعلى حدٍّ سواء وقد عُبّرَ عنها في الأدبِ العالمي كثيراً بوصفهِ أول المكتوينَ بنيرانها..ففي أدب يوجين يونسكو"كمثال" يتجسّدُ اختناقُ الجسدِ بوسائلَ وصورٍ متعددة..مرةً يختنقُ جسدُ مستر زيرو في "المُستأجر الجديد" بالأثاثِ الذي يستمرُّ العمّالُ في حملهِ إلى شقتهِ حتى تمتلئ تماماً بحيث يُحشر كالجرذِ في زاويةٍ صغيرةٍ فيضيع صوتهُ المختنق قبلَ أنْ يَملأ الأثاث الشوارعَ كلها وأنفاق المترو ثم فرنسا برمّتها في نهايةِ المطاف..وفي "الكراسي" تبدو المأساة أكبر إذ أنَّ مَنْ يتولى الخنقَ هنا هو الإنسانُ ذاتهُ بحيث تتقاسمُ فيهِ الأجسادُ حصتها الاختيارية من العزل..وليسَ أدلُّ على عمقِ هذهِ المأساة من صَممِ وبُكمِ الخطيبِ المفوه! الذي أوكلَ إليهِ عجوزٌ يبلغُ الخامسة والتسعين من عمرهِ مهمة نقل سر الحكمة التي ستنقذ البشرية جمعاء في جزيرتهِ التي يدعو الناسَ إليها حتى تمتلئ بالكراسي توقاً لِما سيقولهُ قبلَ أنْ ينتحرَ هذا العجوز هو وزوجته ليكتشفَ الجميعُ صَممَ وبُكمَ هذا الخطيب المفوّض!هذهِ الحواجزُ بين سموّ الحقائق وعقم طرق إيصالها هي حواجزٌ بشريةٌ أولاً وآخِراً..مشوهةٌ بالصَمَمِ والبكمِ دلالة العَزلِ الكامل والسجن الذي وضعَ الإنسانُ نفسَهُ فيهِ بنفسه..الأمرُ ذاتهُ يتكررُ في "المغنية الصلعاء" ليصلَ حدَّ التسليم بل الرضا بسجونِ العَزلِ الاختياريةِ التي تفصِلُ الأجسادَ عن بعضها حتى على الزوجينِ نفسيهما..وفي "أميديه"إذ يزدادُ الموتُ إلى الحدِّ الذي تضيقُ بهِ الحياة فتتضخمُ جثة شابٍ في شقةِ أميديه وزوجتهِ وتستمرُّ بالنمو المفرَط حتى تضيقَ بها شقتهما..انعدامُ الحبِّ روحياً وجسدياً أدى إلى تنامي جثة الكرهِ بينهما بالشكلِ المأساوي الذي صوّرهُ يونسكو..لتعودَ فكرة حشر الأجسادِ مجدداً حينما يُضطرُ أميديه وزوجته للعيشِ في زاويةٍ ضيقة.العُزلةُ التي يُعبَّرُ بها بهذا المفهوم تختلفُ عن الوحدةِ أو التمايز..حينما يسعى الإنسانُ إلى المُغايرةِ لِما هو مألوفٌ في مجتمعهِ بُغية التفردِ والانكشاف..ذلك أنَّ الجميعَ يسعى أحياناً في وقتٍ واحدٍ إلى لبسِ أقنعةٍ جاهزةٍ ومتشابهةٍ تمررُ رسالة اطمئنانٍ إلى الآخر "أن لا تخف فأنا أشبهكَ في كلِّ شيء.." مأساةٌ كهذهِ ستدفعُ بالمغايرين وسطَ هذهِ الأمواجِ البشريةِ المُقنّعة إلى اختيارِ تلك العزلة القاتلة لِتدفعَ بالمجتمعِ أخيراً إلى حدِّ التكلّسِ أو التجلّطِ ومن ثمّ التصلّب الكامل بمفهومٍ سارتريّ أدق.ما زال عند الجَسدِ الكثير مما يجبُ قولهُ.."عربياً" على الأقل إذ تتضاعفُ فرصُ خيباتهِ جرّاء محاولاتِ إسكاتِ الجَسد وقمعهِ وتغييبهِ وإقصائهِ في عصرٍ اقتربَ الإنسانُ من معرفةِ أسرارِ المجرّاتِ البعيدةِ عنهُ بملياراتِ السنين الضوئية في الوقتِ الذي ما زالَ يعاني من مرحلةِ طفولةٍ بدائيةٍ في فهمِ أسرارِ هذا الشيء الذي هو ألصقُ شيءٍ به..جَسدهُ!