جاء المحتجون إلى ساحات مستدعاة لهم

آراء 2020/03/07
...

محمد خضير سلطان
 
تبعاً للعوامل الموضوعية والتاريخية، فان الوقائع – أي وقائع – بمخاضاتها الانسانية  الشرسة والدامية لها زمنها الخاص  الذي لا يستقدم ساعة أو يتأخر برهة، إنما يحدث في حساب زمني، تلتقي فيه عقارب الدقائق والثواني على وجه الضبط والدقة مع سيرورة التاريخ وأحقابه المتناضدة لتنتظم في سياق تطوري واستقبالي لما يقع ، فلم يحدث عبثاً أو محض مصادفة، أن يهجم ثوار الباستيل نهاية القرن الثامن عشر على حصون سجن قديم،
 أقيم منذ العصور الوسطى بل لأن هذه العصور الهشة، استنفدت حضورها الاجتماعي فوصلت الى نفادها التاريخي من خلال هذا الرمز، واستدعت معها نهايات طبقة النبلاء والملوك حتى افضت الى استقبال عصر جديد، قاد الى فاعلين أساسيين جدد، تمثل في الفقراء والعمال والثوار والطلاب والصحفيين والمثقفين، وارتبط بتدشين الفعل وتوقيته الدقيق في السياق التاريخي، وهكذا فان لكل حدث لحظة توقيت عام،  تتقدم ثقلها وعبئها الزمني، ولها أن تصل الى حدها الأخير في التاريخ لتنظيم الساعة البشرية من 
جديد.
وينطبق الأمر على التوقيت العام للحظة التي استعاد فيها داروين ونيوتن صورة أخرى للذهنية البشرية أو اكتشف كوبرنيكوس ومارتن هايدغر لحظة وجودية مغايرة للعصور الماضية، والأمثلة كثيرة جداً إلا انها لا تعني بأن هذه السياقات حتمية أو قضائية في الفضاء الاجتماعي قدر ماهي جدل تطوري في شكل تتابع زمني مطّرد،يمنح الزمن بعده الخطي المتقدم الى الامام لا السائر من الاحقاب الدائرية بلا 
طائل.
هذه المقدمة القصيرة، جاءت توطئة لكي تدرس على نحو معين، ساعة وتوقيت التظاهرات التشرينية في بغداد ومحافظات الجنوب والفرات الاوسط، ولعل من المفيد التوضيح بأن هناك نوعين من التوقيت، الأول التوقيت الحقيقي والثاني التوقيت الكاذب، وعملية الفصل والتحقق بين التوقيتين،تحتاج الى الكثير من أجل الاثبات وهو ما نرجئه الآن الى وقت آخر.
ومن المهم جداً الاشارة هنا الى أن التظاهرات التشرينية، تمتلك توقيتاً حقيقيا،ً فلم يحدث أن يشهد شارعنا السياسي طوال العصر الحديث، استقطاباً للجمهور بهذا المستوى من الديمومة والعدد والاصرار، وذلك المسار من الثبات والتنظيم السلمي والصبر والتخطي في مواجهة المشكلات المعيقة .
 لم نشهد جموعا أحادية الجذور الدينية والانتماء الجغرافي، تلقي هوياتها الفرعية بعيداً وتنشئ طريقاً جديداً ممهداً الى لغة بحاجة الى الاستنطاق، ولم نألف وعياً مباغتاً جّلهٌ حركات حية سريعة في إثر الدخانيات وردود أفعال نبيلة إزاء مجابهة السلطة وايماءات وهتافات محمولة على بلاغة فعل ورمز ولعب وفلكلور بتشكيلات صورية وصوتية متعددة أكثر من أن تكون أبجدية واضحة في إطار ثقافي تنطلق منه بل العكس، ولأول مرّة تأتي بلاغة الفعل السياسي الثائرالذي يروم أهدافه بلا لغة خطاب مباشرة او أصوات لفظية معبرة عنه ومتماثلة 
معه.
لايوجد دافع أيديولوجي منظّم،لا طليعة، لا نخب دافعة، لا مدى نقابياً أو رأسمالياً مصَنعاً، ليس هناك سوى الأثقال المريرة والمغذي المرجعي الديني في مداه الوطني والفضاء التقني في وسائل الميديا والتواصل الاجتماعي فضلاً عن جماليات التعبير في فنون البيئة على الجدران والأقنعة والمسرح والموسيقى بوصفها مشاركات عفوية الغاية منها ترسيخ اهدافها 
الاعلامية. 
وكل ذلك التوصيف بالرغم من أهميته، لا يفصح عن محرك التوقيت الأساس الذي يتصل بالظاهرة الدينية والجغرافية للمحتجين فالشارع الشيعي بعد ستة عشر عاماً من عوامل ومآزق التغيير وهي مدة موضوعية فعّالة لإجراء تحّول، استنفدت امواج التظاهرة الطقوسية المليونية باتجاه الأضرحة والقباب الذهبية، استنفدت على النحو الذي دعا الى الفصل والإنشطار بدقة بين مضمونها الشعائري الديني الهادر وبين اهدافها السياسية المندغمة ، بينما كانت تعمل الطبقة السياسية على دمج الطقوسي بالوطني والالهي بالبشري والسماوي بالأرضي تبعاً لإدامة وجودها التقليدي.
بعد ستة عشر عاماً،تبصّر الشارع الشيعي الى حقيقة الفرق بين الزائر والثائر، الزائر في التظاهرة الطقوسية المحضة التي لا تعنى بالزمن الأرضي مطلقاً،إنما هي نشدان حر للتوقيت الألهي غير المدرك منذ مئات السنين، والثائر الذي يفصل بين التظاهرة الطقوسية التي تنشطر في موج جديد لتظاهرة وطنية لها حسابها الزمني المحدد وتنشئ معاييرها وأوصافها الجديدة من دون إنكار الأصل.
تبيّن الشارع الشيعي لأول مرة الفرق بين الدعاء والهتاف، الهتاف صانع للمواطنة والدعاء عودة الى الينابيع الثقافية التي تشكل الشوارع الأخرى في الفضاء الاجتماعي العراقي التي اذا تحرك زمنها كذلك، سوف تبرز بحق كينونة الهوية الوطنية العراقية في القرن الحادي والعشرين.
كانت الطبقة السياسية، تعوّل على دمج التظاهرتين، وتضمن رصيدها الانتخابي من خلال محاولة أنسنة المقدس في صوغ سياسي مضلل بينما جاء ثوار ساحات التحرير لإقامة الحد الفاصل بين المقدس الخالد والسياسي المتغيّر، وتوظيفهما بالاتجاه الصحيح وما كان للشارع الشيعي أن يحصل على هذه النقلة لولا مختبر التظاهرة الدينية بعد التغيير، وللحديث 
صلة.