مـقـصـديـات الـبـوح الأنـثـوي

ثقافة 2020/03/08
...

د. سمير الخليل
 
 
تحثنا نصوص مدونة (جسدها في الحمام) الصادرة عن منشورات المالكي- بغداد، 2018 للشاعرة "ابتهال بليبل" على البحث عن "الفائض في النص" أو ذلك العفريت الذي يتوارى داخل النص، لاسيما أن النصّ كتبته أنثى، والعنوان الرئيس للمجموعة حاز على صفاء الإيحاء والإغواء والايروتيكية بتحدٍّ ومغامرة لقلب التابوات. 
هذا الفائض في النص الذي يمكن الإمساك به بسهولة، ليس عن طريق نماذج المعرفة والمعنى مثلما نتعامل مع النصوص الشائعة التي كتبها ذكور أو اناث مهتمات بالمواضيع النسوية أو الأنثوية وهي مواضيع سياسية، إجناسية، مدنية، أكثر منها مواضيع إبداعية بحتة. 
إنَّ بليبل قد منحتنا نصوص بوح أنثوية جسدية بلا نفاق، تعيد تحفيز فقدان التوازن في خصوصيات الواقع الشرقي، لاسيما وإن هذه النصوص قد كتبت من داخل الحمام، ومن فوق سطوح البيوت، ونحن نعرف أن الحمام والسطح مكانان أنثويان، أي فضاءان يخصان الأنثى وأسرارها في الواقع الشرقي على الأقل وبليبل عبّرت عن الأنثى في وجهها المحظور والمسكوت عنه. 
وحين لا تسعف القارئ الشرقي رغبته في التجرّد إزاء هكذا نصوص فهو يترك طهرانيته وعفته وراء ظهره ويتوجه نحو اكتشاف هذا العالم المتعي غير المجهول بالنسبة له، ولكنها نزوعات الكبت والكبح وضغوط تابوات التحريم والتجريم، وقراءته المتلهفة ليست بالضرورة حركة عدوانية انتقاصية، بل حركة موجهة لاكتشاف الذات، لاكتشاف ذكوريته في هشاشة الأنثى ورقتها ومشاغلها الحميمية الجميلة. 
فيفقد القارئ المفتون بذلك عفته التقويّة لبعض الوقت (وقت القراءة)، ويفقد ذاته الفكرية والثقافية كيما ينخرط ضمن طقس تكتنفه العطور الزكية وأدوات التجميل والإكسسوارات المثيرة 
والملابس الاستعرائيّة الشفافة وكل ما يحتويه الفردوس الأنثوي من ثمالات ولذائذ. 
إنَّ فقدان القارئ المفتون لذاته الثقافية معناه فقدانه لجميع قيمها وذكرياتها واهتماماتها، ويغدو شعوره الأساس شعوراً جسدياً متعباً، وتظل في الوقت نفسه مكبوتاته تحوم حول النشوة وكيفيات التنفيس عن تلك المكبوتات، وهذا يعني من حيث المبدأ أنه لم يفقد ذاته الثقافية بالمرة، بل أن ظهوره مختلفاً هذه المرة عن نفسه ضمان لتلك الهوية الثقافية بعد أن حصلت على ثباتها من خلال سقوطها في المحظور، فنصوص البوح الأنثوي هي المحظور الذي حفز الهوية الثقافية على أن تبرز وتتأكد بشكل قوي بوصفها هوية لها تمزقاتها، صدوعها وشروخها وبصمات المقدس وقد وضعت أمامها أنواع الحواجز كي لا تقترب من المدنّس وتقترف المعصية، وهل قراءة بوح الأنثى معصية وإثم؟ 
هذا هو السؤال الذي ستحدّد الإجابة عنه نوع الهوية الثقافية التي تناضل من أجل الصمود والثبات بوجه اجتياحات مقدّس حوّل كلّ حياتنا إلى مدنّس وحرام إلّا بعض الاستثناءات التي تطالها الشبهة السياسية والدينية والاجتماعية التي لا مجال للخوض فيها حالياً. 
مما يستحق الذكر هنا أنّ البوح الأنثوي لا يأتي من مجرد حالة النفي، بل من الثبات والاستمرارية في الوجود، ولما كانت الاستمرارية تحدد صورة الفاعل- الفاعلة فالمهم هنا هو تأكيد الذات في إزدواجية التردد بين "أنا" و "لست أنا" بين هدم الذات وبناء الذات، وتتطلب هذه الحيثية إعادة النظر في التوجه النقدي الذي حفلت به النصوص وهو يشير إلى الآخر- الضد: (الرجل). وإلى الآخر- الضد: (التخلّف) وكل الأدران التي أصابت المجتمع حتى وصل إلى هذه الدونيّة وهو ينظر إلى المرأة على أنّها: عورة، حرمة، نجاسة، ضلع أعوج، ناقصة عقل، صويحبة يوسف، خدينة الشيطان، كهف النميمة، جبل النفاق، نفق المكيدة....الخ. 
في حين يعيد "البوح الأنثوي" إثارة مشكلات القراءة الذكورية على أنّها قراءة غير بريئة، ملوّثة بالقبليات والإسقاطات، واللامنطقية، واللاحضارية، فالقراءة الشهوانيّة تخلق هدفها بنفسها لأنّها تنتج التصدّع وإنهيار الممكنات التي كانت قبل القراءة تتمتع بالعقلانية، لكنها بعد القراءة تحوّلت إلى شبهات تدخل في قفص الإتهام. 
صحيحٌ أنّ (الشعور بالتصدّع يحفّز المتعة لدى القارئ) حسب رأي الفرنسي "رولان بارت" في كتابه "لذة النص" (الصفحتان 31 و 32). لكن هذا الشعور بالتصدّع لا ينبغي له أن يتجاوز النظرة الجدليّة، النظرة المدنيّة التي تعتمد على اكتشاف السمة النصيّة، السمة الأدبية التي يتمتع بها النص، بلاغة الكناية التي توجهها الأنثى المفجوعة والموجوعة إلى الواقع المرّ الذي يكبّلها بألف قيد، 
وحتى لو أخذنا وجهة النظر المضادة المعاكسة، ولكي نطمئن لتخريجاتنا وهي تتناول الموضوع، من كل جوانبه، 
فمتعة القراءة وفائدتها لا تستثني عملية الوعي ونضج الوعي، فالذي يتكوّن عن طريق استفزاز الآخر ووخزه مباشرة 
لا يخلو من صفات الموضوع 
المهم والمرتبط بغيره من الإشكاليات العالقة وغير المفككة، ولا يستطيع 
القارئ أن ينخرط بقراءة الكتاب إلّا إذا مسّته قدحة الإبداع اللاذعة حتى وإن جاءت بأسلوب سلبي، أو ركيك لغوياً، أو غير متماسك شكلياً، ولا موصف إجناسياً. فقدحة الإبداع لا يمكن أن تخطئ هدفها: القارئ بكلّ عثراته وسقطاته. 
وها قد حان الوقت لنتمتع ببعض النصوص المستلّة بتقنين صارم، والتي رصفناها في سبع مجموعات من دون أن نضع لها توصيفات نقدية- تصنيفية، فهي واضحة وشفافة وقصدية، لأن نصوص (جسدها في الحمام) انتظمت بشكل ممنهج للتصدي لعرض تلك الموضوعات السبعة، أما الموتيفات الفرعية فقد جاءت لتعزيز تلك الموضوعات الرئيسية: 
•المجموعة الأولى: ((المدهش، أنني لم أختر القطيعة، فقط كنت أستلقي هامدة، مثلما تريد، هكذا في راحة يدك، تدور وأدور)). (ص6). ((مثل ذاتي تراوغ رغباتك وأفعالك حد الضياع القاتل، وجسدي الذي لم يعتد على ممارسة رقصاتك في تشذيب وتزيين ثقوب مثالية لذاكرة معذبة الآن، وجروح تتسع مع انحناءاتي)). (ص10). ((في ليلة سرية، عندها تلاشت الستائر والغرف والشوارع والمدن، تاهت المشاهد وقفز مأخوذاً بوعوده المفاجئة هناك حيث باعدت امرأة غريبة بين ساقيها، وشقت المسافات بينهما. باعدتهما، ثم ملأتها بمياهٍ آسنة)). (ص30). ((في حب، في حلم، لونت لك وجهي، وجهزت ملامحه الجديدة، وسرحت شعر رأسي لتهبط أصابعك عليها بخفة الصدق)). (ص59). 
•المجموعة الثانية: ((ثمة شيء يهتز، يتأرجح ويدفعني لاختراقه، كل التقمّص حيث الروح تنتظر الرجوع إلى الحياة بجسد آخر، مثلما أنتظرك تحت الدانتيلا الأنثوي)). (ص7). ((وكنت أشعر أحياناً وكأنّك تعبر أجسادهن مثل طيف يخترقني في المنام)). (ص20). ((إذن سأموت قريباً، لذا عليه ألّا يفكر بشيء سوى أن يقتحمني في اللحظة التي ينطفئ الكون كلّه في نفسي)). (ص78). 
•المجموعة الثالثة: ((تسمح له كلما تذكرت أن يتلوّى على حبل غسيلها السري حتى قبل أن تغيب الشمس)). (ص26). 
•المجموعة الرابعة: ((هذا الجسم العاري الذي سقط على الأرض بعدما سرقوه مرة بعد أخرى)). (ص17). 
•المجموعة الخامسة: ((لقد ذهلنا من الإزعاجات الناجمة عن ترهّل كؤوس الحمالات، والأربطة الضيقة التي تترك وشماً على الظهر)). (ص29). ((كنا فتيات، جعلتنا حمالات الصدر 
بنهود فاجرة بمعتقداتهم، تطبع العتمة عليها مهمات متوهّجة باللامبالاة وعقاب الأب، اللامبالاة كلها أمامنا وخلفنا)). (ص31). 
((مثل أمازونيات أو نساء محاربات كافأت نفسي بقطع الثدي الأيمن، 
نحن اللائي كنا لا نملك عشاقاً، سرقنا حمالات الصدر، لقد كانت من الدانتيل الأسود الممزوج بالساتان)). (ص61). 
•المجموعة السادسة: ((بالنسبة لامرأة عديمة الجدوى، سيكون الاستحمام بحوض البانيو أمراً لا يمكن تجاوزه)). (ص37). 
•المجموعة السابعة: ((بضع هياكل مرتعشة من حبوب الفياجرا تضيّق مساحته مثل ورطة رجل عجوز على السرير، ورطة الشرشف المنكفئ من الخواء)). (ص66). 
لقد أثبتت بليبل في نصوصها هذه أن "الفائض في النص" هو العفريت الذي يتوارى في ثنيات النصوص وقد نجحت في القبض عليه ومنحه أنسنة متعيّنة، وكانت جريئة وصادمة  لمواريث الغباء التي غلّفت عقل الرجل حين يتصوّر أنّه وحده من يملك الحياة ويسمح بحدود للمرأة أن تنهض من رمادها.