سؤال النهضة!

الصفحة الاخيرة 2020/03/09
...

 جواد علي كسّار
اشتهر في أدبيات الفكر العربي المعاصر ومراجعاته، بسؤال عصر النهضة؛ سؤال مؤدّاه: لماذا تقدّم الآخرون وتخلفنا؟ وقد اختلف التنظير لعصر النهضة هذا بين من ربطه ببداية غزو نابليون لمصر والشام عام 1798م، وما نشأ عن ذلك من وعيٍ مستأنف في العالم العربي، عبر اكتشاف التقدّم الأوروبي والتخلف المشرقي، من خلال صدمة الحداثة الأوروبيَّة في بواكيرها الأولى؛ وبين من أرّخ لهذا العصر ونهضته بلحظة الطهطاوي والأفغاني، ثمّ عبده والكواكبي وابن باديس وأضرابهم.
أياً ما كان الأمر فما برح هذا السؤال قائماً، يفرضه واقعنا ويُغذّيه سيلٌ لا ينقطع من الكتابات والندوات والتكييفات النظريَّة. من الأطروحات التي شهدها العالم الإسلامي لتفسير ظاهرة التخلّف الذي لا يزال يعانيه، نظرية التبعيّة للغرب، بمعنى أنَّ الغرب مباشرة أو عبر الأنظمة التابعة هو وراء تعطيل التنمية الحقيقيَّة في بلاد المسلمين، كما تميل لذلك اتجاهات بارزة في الفكر الإسلامي.
من ذلك نظرية الأطراف والمركز التي طوّرها المفكر العربي المعروف سمير أمين من أحشاء المنهجيَّة الماركسيَّة، حيث يقضي التمركّز الغربي إلى المزيد من تهميش العوالم الأخرى بضمنها العالم الإسلامي، ما يخلق على الأرض نمواً غير متكافئ؛ وهذه بكثافة واختزال هي نظرية النموّ اللامتكافئ.
من النظريات ما أكّد دور العامل الاجتماعي عبر مفهوم السلطة الأبويَّة الفرديَّة القمعيَّة المتعالية، التي تستحكمُ في نسيج البنية الاجتماعيَّة لمجتمعات المسلمين، كما ذهب لذلك الباحث الاجتماعي فلسطيني الأصل هشام شرابي، وغيره من الاجتماعيين العرب
في المقابل برزت نظريات راحت تبحثُ عن التخلّف ليس في التركيب الاجتماعي، بل في التكوين العقلي والثقافة الناشئة عن هذا التكوين، كما ذهب لذلك تيار التحليل المعرفي (الابيستيمولوجي) للثقافة والعقل المنُتِج لها؛ محمد آركون كأبرز مثال لتحليل الظاهرة على مستوى العقل الإسلامي، ومحمد عابد الجابري كأبرز مثال لها على مستوى العقل العربي.
من النظريات ما اعتمد على مركبٍ تحليلي يجمع بين الداخل والخارج، إذ يأخذ من الخارج تصديره لأنموذج الحداثة التابعة أو الحداثة الزائفة ونمطها الاستهلاكي، الذي ازدهر على أساس أنظمة الدولة القطريَّة في العالم الإسلامي؛ تعضده من الداخل بنية اجتماعيَّة متخلّفة بسبب ثقافة هجينة تأخذ من التراث والعصر من دون أنْ تقوى على هضم وتمثّل ما تأخذه، كما يذهب لذلك عددٌ من الباحثين الاجتماعيين والاقتصاديين مثل برهان غليون وعادل حسين وحسين أحمد أمين وغيرهم، عندما انتهوا إلى أنَّ مجتمعات المسلمين تعيش بحقّ حداثة تابعة في ظلّ سطوة الدولة، تُنتج تحديثاً للتخلّف تحت شعار التنمية، وتمزّق الانسجام الاجتماعي بمزيدٍ من التشوّهات.
هذه جولة عابرة تؤكد أنَّ سؤال النهضة لا يزال هو سؤال عصرنا أيضاً، أعادتني إليه مراجعة جديدة، قمتُ بها لآراء اثنين من الباحثين هما خلدون النقيب وإبراهيم البليهي، أحترم الأول كثيراً منذ أنْ تعرّفتُ على كتاباته منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لما تتسمُ به غالباً من صلابة نظريَّة وسلامة منهجيَّة تُلامس الواقع، يشهدُ على ذلك كتابه المتميّز «آراء في فقه التخلف»، وأقدّر للآخر جرأته في إثارة الأسئلة، وصراحته الواضحة في الكلام عن واقعنا الاجتماعي والسياسي، يشهدُ على ذلك كتابه المهم «حصون التخلف».
أخيراً، يبقى في نفسي أنْ أقرأ رؤية منظوميَّة منهجيَّة لباحثٍ أو مفكرٍ عراقي، يفسّر لنا التخلف، ويرسمُ لنا إضاءات على طريق التقدّم!