النص وذائقة المتلقي

ثقافة 2020/03/09
...

رحيم زاير الغانم
 
 
 
علاقة النص بالمتلقي علاقة محكومة بالذائقة الأدبية وبها يستمد النص ديمومته بالتلقي، فما يطرحه النص الأدبي من موضوعات تستقطب المتلقي بوصفها موضوعات ذات صلة بتطلعاته واهتماماته، وبذا نؤشر لبذار الذائقة في كينونتها الأولى فهي تنبثق بولادة النص المعبر عن الواقع المعيش وهموم العناصر البشرية الدائرة في فُلكه، وهذا لا يعني التخلي عن ذائقة القطب الثاني المتلقي، التي يمكن عدها ذائقة متحققة من جملة الخبرات وبشتى المشارب (الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية) أو ما يُنتج عن موجبات رؤيوية أو مدركات أيديولوجية (فكرية) أو أبعاد فلسفية، كلُّها مجتمعة مسهمٌ في تنمية الذائقة لدى المتلقي، كمعادل موضوعي مع ذائقة النص الأدبي، فلا ذائقة أحادية القطب، وإنما ذائقة بقطبين 
يُكملان بعضهما البعض فنيِّاً وجمالياً، وما الذائقة المبثوثة في النص إلّا ارتداد لما يستشعره مجسّ الذائقة (التلقي).
ومن المفيد الحديث عن مدى التأثير والتأثر فيما بينهما، أي من يؤثر في فعل أو ردة فعل الآخر، هل النص يجاري الموضوعات ذات الصلة مع واقع المتلقي؟ أم إن المتلقي دائب البحث عن النصوص التي تُطرح فيها قضاياه المصيرية؟ أم إنهما في تناغم دائم (حوار) من أجل أن يكون النتاج الأدبي ذا جدوى؟، فليس من المعقول أن يعيشَ النص ويصنع خلودَهُ بعيداً عن أجواء وتطلعات متلقيه أو أفكاره التي تسرّبت إلى النص، أسئلة كُثر ستتم الإجابة عنها في ضوء عينات تمَّ فرزها من نصوص مجموعة (الهبوط إلى جهة القلب) للشاعر الدكتور مولود محمد زايد المكتوبة بين العام (1990 - 2000م) التي يمكن اعتبارها بوابة للبحث في تناص الذائقة بين تنوع الموضوعة وصلتها التفاعلية مع المتلقي.
( هذا إيابك .. لو شفاك إيابُ/ هرمت./ فأحنت ظهرك الاتعابُ/ مازلت تضرب في الدروب.../ مضمَّخاً بدم الجياع .../ وللعراء ثيابُ) ص29
المنحى الفلسفي حاضرٌ في النص لما يطرحه من اللاجدوى في الذهاب والإياب المُضني مادام المكسب بعيد المنال لحضور الهرم، وما تداعيات انحناء الظهر والتضمّخ بالدم والتعرّض للعري قبالة كسوة العراء التي لا طائل منها غير ذائقة خلو الوفاض والفشل الذي هو ديدن الكثير، تقابلها ذائقة المتلقي الذي يدور في ذات الخواء، في حوارية تلقى صداها عند جمهور متلقيها، بوصفها واقعاً معيشاً.
( شاخت خطاك ../ وما انتهيت لغاية/ ورجعتَ يدمي مقلتيك سرابُ/ بلقيسك الحمقاء ../ تحسب لجة أوجاعك الظمأى../ وهُنَّ قبابُ! ) ص30
يتكرر ذات الفهم عن علو كعب ذائقة النص على ذائقة المتلقي جاذبة إياه الى منطقتها الجمالية، ممارسة غواية الإنصات إلى صوت الروي العالي الذي فاق صوته، سردية يعبر فيها النص عن عبثية الواقع المعيش بدلالة جمل النص الشعرية (شاخت خطاك../ وما انتهيت لغاية/ ورجعتَ يدمي مقلتيك سراب) تراتبية ثبَّت فيها النص مواطن الهرم والركون للمجهول والضياع، وما تكدّس منها من قباب الوجع والظمأ.
(ما شئت.. كوني .. فما في الأفق متسعٌ/ للأغنيات .../ ولا في القلب ... أوتارُ! ) ص74
تتشاكل ذائقتا النص والمتلقي لكن زمام المبادرة مناط زمامها للنص على الرغم ممّا صرّح به من اطلاق الحرية للمحبوبة في تشيؤ (صنع) نفسها لقوله : (ما شئت.. كوني.. )  لكنها حرية غير صالحة للنجاح للمعطيات التي تلت في الجمل الشعرية (فما في الأفق متسعٌ/ للأغنيات .../ ولا في القلب ... أوتارُ! ) التي تعمل على قتل مشيئة التكوين آنفة الذكر، ذائقة نصية تناغمت مع موضوعة اليأس في أمل (تكوين) في ظلِّ واقع معيش أفضل.
(غريباً .. سرى في وحشة الدرب./ بعضه .. تخبَّط في بعضِ../ وضاع صداه!/ تنمّ به الأشياء .. حتى كأنها/ مرايا .. تراءى فوقها ما تغشاه/ وتهمي عليه الذكريات .. أثيمةً../ فيصفعها بالوهم../ تُدمى يداه..!! ) ص78
في النص الشعري امتثال  لذائقة المتلقي لما نقرأ من سردية تعبيرية عن الواقع المتهالك، بطله الغريب ومسراه وحشة الدرب، (بعضه.. تخبَّط في بعضِ..) ماذا عساه يهبنا هذا الواقع غير تصدير لذائقة ضياع الصدى والذكريات الأثيمة التي لا مفرَّ غير مواجهتها بردة فعل توازي خرابها (فيصفعها بالوهم../ تُدمى يداه..!!) وفي الحالتين الخسران يشملهما، الواقع برفضه والانسان المُدمى اليد، كلاهما يقطر فاقةً وألماً، في إعلاء لصوت المتلقي المسهم الحقيقي في تصعيد صوت (منلوج النص، الموسيقى الداخلية) وما ترتب عليه من ردة فعل تمثل بتقبّل ذائقة الواقع المعيش كما صورها لنا النص الآنف بكل تفاصيله.