في مديح البرج العاجي

ثقافة 2020/03/09
...

علي وجيه
لا أُنكر أن ترويسة عمود الشاعر الراحل، الفقيد “فوزي كريم”، في ثقافيّة المدى، كان تستفزّني وتستفزُّ جيلي الثقافي ومَن في عُمرنا، كان عنوانها آنذاك “البرج العاجيّ”، وبالنسبة لمراهقتنا ونزقنا ومحاولة تغيير المجتمع بالشعر والثقافة.
في الثقافة العربيّة، ثمّة نسقٌ ثابت في ذمّ العوام، والطبقة العامة المبتعدة عن الفنّ والأثر الإبداعي والتعاطي معه، ولعلّ التراث العربي خصوصاً يذكر كثيراً من النوادر بشأن النحويين المنزعجين من العامة، والفقهاء الذين يحارون بالتعامل مع فلان “الأحمق” وفلان “المعتوه”، بل كان التراث يؤشر بشكلٍ واضح عن أن مَن لا يفهم هذه اللمحة العقليّة، لغةً أو شعراً وفقهاً، بأنه من “المغفلين” أو “الحمقى».
عملية إنتاج الثقافة والأثر الفنّي عمليّة بطيئة، وتحتاج إلى طبقةٍ مُصطفاة، لأن تلقّي هذا الأثر الذي يكون على قدر كبير من الخصوصية، يحتاج إلى عملية بناء ذات وذهن معقّدة، فلا تلقّي اللوحة يأتي اعتباطاً قياساً ببناء سطحيّ للذهن والقدرة الذوقيّة، ولا قراءة نصّ شعريّ حديث ممكنة للمرء إن لم يتمرّن على فهم المفردة، والبناء، والسياق التاريخي لهذا الشكل الفنّي أو ذاك.
تلك الخصوصية، منحت العامّة مساحةً موازية للأثر الفني، فمَن فاته التشكيل التحق بالكيتش، ومَن فاته النص الشعري التحق بالشعر العامي أو الفصيح السطحي اليوميّ الزائل، ومَن لم يلتحق بالسرد الأنيق كانت الروايات العاطفية البسيطة زاده، وكذا الحال مع الموسيقى، والعِمارة، وكلّ الفنون التي تخفضُ شيئاً من قبح العالم.
تدريجياً، تختفي لغة التواصل بين المشغل الثقافي والمتلقي الاعتيادي من العوام، بل وتتحوّل إلى حالةٍ من عداء، بسبب عدم فهم عناصر إنتاج هذا الأثر، ولعلّ أغلبنا انتبه لنبرة التنمّر التي يتعرّض لها المثقّف، بوصفه “مشروع معقّد نفسياً”، وصار كاركتر المثقّف مثالاً للتندر، ويتم استهداف أسواق الكتب رمزياً بشكلٍ مكثّف، ومقاهي المثقّفين.
الخروج من “البرج العاجي” اللغوي والمعرفي، يجعل العامل بالثقافة، ومنتجها، مقدّماً لكثيرٍ من التنازلات، ابتداءً من لغة الكتابة، والشأن العام، ويتحوّل – دون أن ينتبه – إلى كاتب لمزاج الجمهور، بقضاياه، وثيماته، ولغته، حتى ليتطابق أحياناً رأيه مع المحركات الشعبويّة والسطحيّة، ويتحوّل إلى عنصر بإدامة هذه الرثاثة المعرفة، لا أن يحدث العكس، برفع مستوى 
التلقّي بشكلٍ أفضل باتجاه الفن النقيّ لأجل الفن، والإبداع بوصفه رؤيا خلاقة.
تغيبُ في هذه الأثناء الفنون الهامسة، التي تكون معنيّة بالفن وحده، ويتحوّل المبدع الآيديولوجي خصوصاً إلى “ناطق” باسم الجماعة، فالتشكيليّ يتحوّل مصمم بوستر للجماعة، والشاعر ناظماً لتوجّهات الحزب والقبيلة والطائفة، والقاص مؤرّخاً للجماعة، وكذا الحال مع كلّ شيء، حتى ينجرف هذا المبدع، دون أن يضع زاويةً خاصة لإبداعه ليتنفّس، ويجد طريقه إلى رفّ الأدب الأنيق، لا فخّ التداول العشوائي للعامة.
البرج العاجي ليس محاولةً عنصرية، أو فوقيّة، لكنها طبقاتٌ من الوعي والفهم، لا يُمكن للمرء أن يتفاعل معها إلاّ بعد أن يُجهّز نفسه بترسانة معرفيّة، أو بالأقل إطلالة بسيطة عن الفنون، وهذا لا يأتي إلا بفضاء فنّي عام، يتم العمل فيه على الطفل والمراهقين، ليكبروا مُنتجين ومُتلقّين.
البرج العاجي هنا محاولة للحفاظ على “بيضة” الفن، والأثر الإبداعي كما هو، فالعامّة تفرضُ شروطها على المُتداول، ولا بُدّ من مسافة سلامة، يُمكن من خلالها العمل باتجاه فنّ لأجل الفن، لا لأجل الآخر، ولعلّ تواجد المثقّف في السوشيال ميديا يجعله منجرّاً لرغبة المتلقّي، الذي بالغالب لا يتعامل مع المفردة كما يتعامل معها المبدع والمتلقي المثقّف بحسّاسية، ولا بُدّ للمثقف، حتى المتعاطي بالشأن العام، من زاوية خاصة جداً، عاجيّة وعالية، بعيداً عن العوام والتلقّي العشوائي الجاهل للفنون.
رحم الله فوزي كريم، الذي ما زال يعلّمنا وهو في قبره.