قصتان قصيرتان

ثقافة 2020/03/09
...

سعدون جبار البيضاني
1- أسفل الحرب
دخل الحبس بعدما حطم ناصية مجده وترك في الأرض الحرام هويته الشخصية وقرص الهوية وجعبة من الذخيرة الحية، مع صورة عشيقته وآخر رسالة منها، وكان قد أودع في أذنها آخر كذبة بأنه سيطلب يدها في أقرب 
إجازة دورية. 
قضى في الحبس عشر سنين كسر فيها مراهقته وأحلامه وحماقاته وارتضى وقارا ما كان ليريده في هذه الحقبة من عمره بالذات، كيف سيحافظ على سواد شاربه ورأسه وهو في محجر عملاق يحدّه من الشمال جنود مدجّجون بالسلاح ومن الجنوب والشرق والغرب حيطان من الخرسانة وأسلاك شائكة ونوافذ بالكاد تسمح بدخول الضوء، والمحجر العملاق كل الوافدين إليه متهمون بتهمة واحدة لذا دخلوا بلا محاكمة، بل دخلوا بكل ترحيب، كانت تهمتهم أنّهم محاربون، قاعات متناثرة احتلت مساحات شاسعة أطلقوا عليها اسم المعسكرات، حُشِرَ فيها محاربون من مستويات متباينة، زجّوا في رؤوسهم عبوات من أفكار، وفروا لهم سبل الراحة، إذاعات موجّهة على مدار الساعة، وجبات طعام نصف دسمة، إلّا أنّه يحظر عليهم رؤية ذويهم طيلة فترة الحبس/ الأسر. مدّة محكوميتهم زمن مفتوح قابل للتمديد، يزورونهم بين فترة وأخرى أجانب يلصقون بأنفسهم الرحمة ويغرّرون الأسرى بأنّهم من منظمات تعنى بحقوق الإنسان، أكثر من مرة بشّروهم إذا وضعت الحرب أوزارها سنقذفكم إلى ذويكم ويملون عليهم شروطا مثل: نحن غير مسؤولين إذا لم تجدوا ذويكم وغير مستعدين لاستقبالكم مرة أخرى، نحذركم من العودة. أحد الأسرى سأل أجنبيا يحمل على كتفه صليبا وهلالا: كتبتُ قصائد على الحائط هل يسمح لي بتدوينها، فأجاب: لا يحق للأسير اصطحاب أي محرر معه، فبكى لأنّه غير قادر على حفظ ما كتب. يتذكر من كتاباته: «تركتُ الخرائب عرضة للريح –ويقصد أبويه – وأوصيتهم بعدم السقوط/ ربما سأعود/ من المخجل ألّا أجد بابا أطرقه. وفي مكان آخر من الحائط نقش الآية الكريمة: (إنّما أشكو بثي وحزني إلى الله) له أصدقاء حفظوا شيئا من بكائياته بيد أنهم توزعوا على معسكرات أخرى. حلم ذات ليلة أنّ أمّه وأباه تمثالان ينتصبان وسط المدينة، وقد علاهما التراب وذروق الطيور، فأخذ سطلا من الماء واسفنجة، وجاء بسلم خشبي، وصعد لينظفهما، فزّلت قدمه، وسقط أرضا، فانكسرت ساقه، وفزّ مرعوبا، فلم يجد التمثالين ولا السطل ولا السلم. لكنه وجد ساقه مكسورة.
 
2 - التحقيق .. مرة أخرى
انتهك حرمة نفسه وأجرى مسحا ميدانيا على المزابل، عرف من براميل القمامة الحالة الاجتماعية لأكثر العوائل المتعففة والمترفة والباذخة، كانت روحه شفافة للغاية لكنها، الآن، في خانة القاذورات. كل شيء في طريقه إلى أن يكون قاذورات أو نفايات. اضطربت هواجسه وغاص في حفر بواطن مخّه، يا ترى هل ستكون أرواحنا الشفافة وقلوبنا المرهفة نفايات في يوم ما، منْ سيوحي له أنْ يغادر رقعة تفكيره التي تسربلت الى وجدانه كحطب، الروح بدأت تقظم ماضيها في أروقة الحاضر المتهالك، تذكر كل أرجاسه وشيطنته وغواياته في ساعة تيه لا يستطيع التملص منها، وقد غدت تأملاته السالفة خروقات لم يكن يحسب لها، تكومت كل أفراحه وأحزانه في دورق متصدع لا يستطيع أن يفك أحدهما عن الآخر، العالم بدأ يبتلع عوالم أخرى ضمن مدار مخيلته التي تغص في دوامات من التفكير، لذلك اتخذ قراره الصعب الذي لا مفر منه، كوّر عفشه وما ادخره وساقه الى سوق الجمعة فبسط حاجياته أمامه، ملابس ،أغطية وفراش متنوع، أجهزة كهربائية وأجهزة تبريد، ساعات جدارية منوعة، غرفة أخشاب، باعها بأسعار بخسه في أول النهار وعاد الى البيت بكل هدوء حذار أن يلتفت له أحد من الجيران.
عاد أهله من زيارة قبر أبيه بمناسبة مرور سنة على وفاته، فوجدوا الباب الخارجي مفتوحا والمنزل فارغا، إلّا من عفش وخرق وأواني مخسفة وبقعة دم كبيرة تتوسط غرفة البيت الرئيسة أنستهم عفش البيت وأثاثه، بقعة الدم الكبيرة تتفرع منها بقع من الدم  تمتد من الغرفة الى ساحة البيت، ثم تصعد إلى السطح عبر السلم وتأخذ طريقا يشبه رتل الدود يأخذ عدة تعرجات إلى السطح ثم يصعد على الستار الخارجي للسطح وتستقر بقعة كبيرة منه بحجم فوهة قدح على مرآة متجهة باتجاه السماء، كانت الشمس تضرب أشعتها عليها فينعكس شعاع يميل الى لون الغسق، لم يحركوا المرآة من مكانها، غلب الصراخ على الموقف والذهول والصدمة وبقعة الدم المستقرة في  المرآة على شكل قلب، تحنط جمع غفير من الناس على سطح الدار، بقع الدم جافة جدا وقد تقوست بعض الشيء، وإنّ أيّة ريح قوية ستطيّر هذه البقع الدموية وتنمحي الآثار سوى بقعة الدم الملتصقة على المرآة بقوة على شكل قلب.
استخبر أهله مركز الشرطة والمستشفيات والبحث في أطراف المدينة وبساتينها والحيرة والمخاوف والتشكيك واضحة على الجيران، وكل يحاول أن ينسج قصة لدرء التهمة عنه. الخبر أثار ضجة كبيرة في المدينة وبدأت بعض الصحف تنشر الخبر وتهوله الى أكبر من حجمه والشرطة تعتقل المزيد من الجيران والمشتبه بهم وأرباب السوابق، وهي جادة في نزع الاعتراف منهم بقسوة.
أحد سائقي السيارات حلف بأغلظ الأيمان أنّه رأى المجني عليه ماجد العطوان في الصالحية ببغداد أمام أحد مكاتب السفر مرتديا بنطلونا كاوبوي ومعه حقيبة دبلوماسية وحقيبة سفر كبيرة، وعندما شاع خبر السائق الذي يعمل على خط بغداد عمارة أودع التوقيف على ذمة التحقيق، بعدما توشح ظهره وزنديه وفخذيه بالسياط، سأله الضابط بكل هدوء:
- عباس، صف لنا بالتفاصيل الدقيقة متى شاهدت ماجد العطوان آخر مرة، وماذا كان يرتدي من ملابس، وما الذي دعاك أن تشيع هكذا خبر بالمدينة من دون أن يطلب منك أحد؟
- نعم سيدي سأجيب بالتفصيل.
- واذا ما اعترفت لنا بالحقيقة فلك الأمان وسأوكل محاميا للدفاع عنك وسنحيط الموضوع بسرية تامة وأنا متأكد لا علاقة لك بالجريمة لكنك تستطيع أن توصل لنا بعض الأمور التي تساعد في اكتشاف الجريمة.
بعد أربعة أيام، وقبل أن ينتصف الليل بساعة تقريبا، صاح السائق عباس على أحد الشرطة وطلب منه أن يخبر الضابط اذا سمحتم لي بمواجهة زوجتي وأطفالي غدا سأدلي لكم بمعلومات مهمة جدا، سُرّ الضابط لهذا الخبر وأمر بتنفيذ طلب عباس، حضرت الزوجة والأطفال عند الصباح الى مركز الشرطة، لم يؤذن لهم باللقاء كما وعدوا، ظلت تنتظر لساعات طوال حتى نام الأطفال على أطراف عباءتها عند جدار مركز الشرطة، بينما تراقب الزوجة منذهلة حضور أقاربها وأقارب زوجها. بعد ساعة من حضور الطبيب والقاضي وضابط الأدلة الجنائية ثبتوا في تقرير مهم بوفاة الشاهد الوحيد عباس السائق في السجن، وقد مضى على موته أكثر من أربع وعشرين ساعة، فزج الشرطي في السجن عن كيفية تبليغه الضابط بطلب عباس في ساعة متأخرة من ليلة أمس، تسلم ذوو السائق الجثة وتاه الأطفال عن أمّهم في ظل عويل غير منتظم، عند التحقيق مع المسجونين عن التهمة  وجيران ماجد العطوان والشرطي ذكر أحدهم أنّه شاهد النزيل يصلي صلاة الفجر، بينما ذكر آخر أنّه حاول إيقاظه على العشاء ولم ينهض، في حين اختلفت آراء الآخرين لكن ذكر أحد المسجونين أنّه لم يتحمل مزيدا من الضرب وسأعترف لهم بقتلي ماجد العطوان والاستيلاء على البيت وليكن ما يكون. 
أُرسلت الأوراق التحقيقية الى القاضي ومعه النزلاء بمن فيهم الشرطي الذي زج معهم عن كيفية موت السائق وأرجئت  قضية ماجد الى أجل آخر.
قبل أن يأتي دورهم للمحاكمة سمعوا منادي المحكمة يدلي قرار حكم عن قضية أخرى بأعلى صوته: 
حكمت محكمة الجنايات الكبرى على المتهم ماجد عبد الله العطوان بالسجن لمدة خمس سنوات لمحاولاته عبور الحدود العراقية الكويتية متسللاً على أن تحتسب مدة موقوفيته السابقة إن لم يكن محكوما عن قضية أخرى.