كتّاب يصدرون أعمالاً إبداعية من قلب الأحداث
ثقافة
2020/03/10
+A
-A
البصرة/ صفاء ذياب
ما زالت الرواية العربية، والقصة القصيرة في الوقت نفسه، تناقش التاريخ البعيد والقريب الذي عاشته بلداننا، وربّما كان السرد المصري سبّاقاً في إعادة قراءة وإنتاج الوقائع التاريخية التي مرّت عليها عقود طويلة، إلّا أنّ هذه السرود لم تُنتج في لحظة الحدث التاريخي، أو التحوّلات السياسية التي طرأت على السياسة والناس في الوقت نفسه، بل تمثّل السرد تلك الوقائع بعد سنوات ليست بالقليلة، وهو ما حدث مع الأعمال العالمية، إذا رجعنا إلى روايات مثل «وقت للحب وقت للموت» لريمارك، أو «مئة عام من العزلة» لماركيز، على سبيل المثال.
غير أنّ الأدب العراقي كان مختلفاً في قراءته للواقعة الآنية، فصدرت الكثير من الأعمال السردية والحدث ما زال قائماً، وهو ما رأيناه في روايات مثل «عذراء سنجار» لوارد بدر السالم، التي صدرت بعد دخول عصابات داعش الإرهابية للأراضي العراقي بشهر واحد، ورواية (الهبوط من المطعم التركي) لمشتاق عبد الهادي بعد أحداث ثورة الشباب بأيام قليلة، ومجموعة (ثنوة اسم مرفوع) لخضير فليح الزيدي الصادرة مؤخراً، وأخيراً رواية (كورونا) لعلي علاء، وأعمال أخرى كان علينا السؤال عن أهميتها إبداعياً، وما الذي يدفع الكتّاب لأنجاز أعمال عن أحداث لم تعرف نهايتها أو خلفياتها بعد؟
البحث عن قيمة
يقول الدكتور نجم عبد الله كاظم إنّ الأجناس الأدبية والفنية تتوزّع ما بين أجناس تقوم أساساً على العاطفة والانفعال، كما هو حال الشعر الغنائي/ الوجداني والأغنية الوجدانية، وأخرى تقوم أساساً على العقل والتفكير، كما هو حال الرواية والمسرحية. وما بين هذه وتلك أجناس أخرى تكاد العاطفة والعقل يتوازنان فيها، كما هو حال القصة القصيرة والتمثيلية أو الدراما القصيرة. تعاملُ هذه الأجناس مع الحدث، يكون وفقاً لطبيعتها هذه. فإذ تقوم الأولى، مثل القصيدة الغنائية، على العاطفة والانفعال، فإنّها تستجيب للحدث بشكل فوري، أو آني، أو على الأقل غير متأخر، بينما يصعب على الثانية، ولا سيّما الرواية، في قيامها على العقل والتفكير والتخطيط، أن تستجيب للحدث فوراً، بل غالباً ما تحتاج إلى الابتعاد عنه زمنياً، وإلى حد ما مكانياً، بل علينا أن ننتظر بعض الوقت لنرى أعمالاً فيها.
ويضيف كاظم: والآن، حين نقول كل هذا، فنتوقع الظهور الحقيقي للرواية الناضجة المتعاملة مع أحداث الحاضر ما بعد انتهاء الحدث والابتعاد عنه، فإنّ هذا لا يعني عدم استجابتها للحدث سريعاً بشكل مطلق، بل وارد جداً أن تظهر أعمال، ولكن بمحدودية العدد وندرة النوع. وهكذا، من المنطقي ألّا نتوّقع سريعاً أعمالاً روائية كثيرة وناضجة تتكلم عن داعش ومأساة الأيزيديين وثورة تشرين، ولكن بما يعني أننا سنشهد شيئاً من ذلك، بل في الواقع شهدنا عدداً محدوداً، والقليل منها ناضج. وهكذا رأينا من هذه الروايات: «عذراء سنجار» و»بنات لالاش» لوارد بدر السالم، و»بهار» لعامر حميو»، و»شمدين» لراسم قاسم، و»المكان الأخير»- بالألمانية- لشيركو فتاح، و»الكافرة لعلي بدر»، و»معزوفات لظل رأى» لأمير بولص إبراهيم، و»على مائدة داعش» لزهراء عبد الله، وغيرها.
مجتمع استهلاكي
أمّا الدكتور عبد الستار جبر، فيرى أن ظهور كتابات مواكبة للأحداث، وبسرعة زمنية لافتة، لا سيّما في الأدب الروائي الذي يتطلّب جهداً ووقتاً، كما لاحظنا في روايات صدرت بعد فترة وجيزة للغاية من الحدث، تمثّل، من وجهة نظري، دلالة لافتة على تحولات اجتماعية- ثقافية في المجتمع العراقي، بفعل تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على إعادة تشكيل مجتمع استهلاكي، وتنميط تفاعلاته الأدبية إزاء الأحداث التي يشهدها ويختبرها ولا سيّما تلك التي يعاني منها، وهي تمثل في الوقت ذاته استجابات سريعة لمؤثرات متعددة الاتجاهات؛ سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها.
قد يفسّر ما تقدم نشوء هذه الظاهرة الاستهلاكية، ويبقى التساؤل عن تقييمها النقدي في ما يتعلّق بأدبيتها وجودتها الفنية ومستواها الإبداعي. وبرأيي، بما أنّها ظاهرة استهلاكية، أو بالأحرى أدب استهلاكي، فمن الطبيعي أنّ جودتها الفنية لن تحظى بتقييم عال. قد يتم الاعتراض على هذا الرأي، بالاستناد إلى المقولة التي ترى أنّ الابداع لا صلة له بالوقت، أو مواكبة الأحداث، أو تأخره عنها، أو أنّ الأعمال المهمة هي تلك التي تأتي لاحقاً بعد الأحداث وليس معاصرة أو مزامنة لها، لما يحتاجه الإبداع من تأمّل وتخيّل وإعادة صياغة. وهو كلام سليم من الناحية النظرية، لكنه عملياً لا يصمد أمام النصوص المكتوبة للأغراض الاستهلاكية.
كتابات تعبوية
ويعتقد الكاتب والمترجم عبد الهادي سعدون أنّ أيّة محاولة للكتابة الروائية عن حدث لم ينضج بعد، محاولة ميّتة منذ البداية. من الممكن التوثيق ليوميات معينة ومحددة لحدث ما كما عليه في ظرف احتلال الإرهاب الداعشي، أو عن ثورة الشباب المستمرة، ومن الممكن تجاوزها لعمل كتاب عن الظاهرة الاجتماعية والسياسية والإنسانية والظروف التي تمر به وتجري فيها الأحدث، كلّها جائزة وممكنة وإن بقيت آنية ومحدودة بظرفها الزمني، ولكنها ضرورية بمعنى التوثيق والكتابة فيها. لكن عوالم الرواية والكتابة الإبداعية عموماً تصبح بعيدة من دون نضج ومعاينة ومداورة ورؤية وهضم للموضوع وظرفه وشروطه، بعدها يصبح كلُّ شيء قاصراً ومصطنعاً لغرض معيّن ينتهي بانتهاء ظرفه ومناسبته. لن نمضي بعيداً لفهم الحالة لو راجعنا، حسب، نماذج ما سمّي بأدب (قادسية صدام) آنذاك، والذي لم يبقَ منه سوى ما يمكن دراسته والإشارة لتعبويته وقصديته وأسماء منْ تلطخوا بالكتابة ضمن شروطه الترويجية الصريحة.
قصدية الأدب
ومن وجهة نظر الروائي محمد حياوي، فإنّ الأدب لا يحتمل توجيه الرسائل مهما كان نوعها، وليس من شأنه توجيه المراثي أو قصائد المديح، لأنّك في اللحظة التي تقرر بها كتابة رواية ما عن موضوع محدّد اخترته سلفاً، تكون قد أجهضت الرواية وصادرت عفويتها. الرواية الحقّة لا تُكتب بقصديَّة مسبّقة أو لأهداف معينة، ولا يمكننا التحكّم بعملية الخلق، ولو نظرنا إلى الحياة كيف تنبثق في الرحم، لأدركنا مدى عفويتها وعشوائيتها، فنحن لا نستطيع التحكّم بجنس الجنين ولا بحجمة أو جماله أو درجة ذكائه، إنّها عملية غامضة ومبدعة وتبعث على الدهشة، وإذا ما تدخّل الإنسان في تغييرها، أو التأثير عليها، أو توجيهها وجهة معينة غالباً ما يكون الجنين مشوهاً، أو ناقصاً، أو يعاني من خلل ما، هكذا هي الرواية أيضا، والتخطيط المسبق لها أو تحديد هدف ما قبل الشروع بالكتابة، يعد تدخلاً أو تغييراً في الخلق، خصوصاً في ما يتعلق بكتابة رواية سريعة عن أحداث طازجة ما زالت تجري، من دون أن تختمر في الوجدان. عملية الاختمار هذه قد تتطلب سنوات أو عقوداً طويلة في الحقيقة، وكل ما عدا ذلك لا يعدو كونه انطباعات سطحية، وإن صيغت بقالب أدبي.
خلاصات الحدث
الناقد أسامة غانم يشير إلى أنّه ليس من الحكمة للروائي أو القاص أن يتناول الحدث وهو متزامن معه، فهذا سيؤدّي به إلى استخلاصات مغلوطة مع رؤية ضبابية وعدم الدقة والقدرة في التحليل والتشخيص للموضوع الذي يتناوله. أغلب الأعمال الأدبية التي بقيت عالقة في الذهن، وأصبحت مأثرة خالدة في الوجدان الإنساني، كتبت بعد مدة زمنية ليست بالقصيرة، وبعدما تكشّفت كثير من الأمور التي كانت خفيّة، وظهور الوثائق التي كان ليس من الممكن القيام في نشرها في وقتها أو الاطلاع عليها، مع ظهور مذكرات ويوميات أحياناً، لقادة وزعماء ذلك الحدث التاريخي. عليه، على الروائي التريّث في كتابة نصه الأدبي، وإعطاء مهلة لقلمه، بجانب البحث في الزوايا المظللة لذلك الحدث، وأسباب اندلاعه، ودراسة نتائجه، كل ذلك سوف يعطي النصَّ الوضوحَ في الرؤية والعمق في التحليل، وأنسيابية في السرد.
كتابة إعلامية
وبحسب الناقد محمد فاضل المشلب، فإنّ أعمال كهذه تبحث قيمة تسويقية (ربحية) أكثر منها إبداعية، بحكم أن النصّ- طويل الأمد- بحاجة لموهبة في البحث، والتنقيب عميقاً في الموضوعة المُراد الكتابة فيها، فضلاً عن التأمّل، الذي هو وسيلة المبدع في مراقبة الأحداث عن بُعد، وقراءتها، وإعادة قراءتها، فليست المسألة تتعلّق بتزامن ما يحدث وما يجب أن يُطبع، أو مسألة كم، عبر تكثير قائمة المؤلف من النتاج الروائي عبر مواكبة ما يصدر هنا وهناك من أحداث ووقائع وفضائح، ففؤاد التكرلي كان يُصدر كل عقد تقريباً روايةً واحدة، ولم يتجاوز نتاجه منها الست روايات، ومع ذلك فله حضور مهم ومؤثّر لدى طبقات عدة من القراء. وقد تحتاج بعض الأحداث سنوات عدّة، من أجل اتخاذ قرار كتابة الرواية، وإلّا ماذا نفسّر صدور روايات عن أحداث جرت قبل مئة عام وأكثر، كما في روائيي التخييل التاريخي: (أمين معلوف، واسيني الأعرج، وسميحة خريس) وغيرهم، حيث يُبذل جهد بحثي موسّع في الذاكرة المجتمعية، وأرشيفها المركزي والهامشي، فالرواية هنا شكل من أشكال المتعة الممزوجة بالمعرفة، وإعادة القراءة، وتفكيك سابق الآراء التي دُوّنت، لكن بقالب أدبي يستهدفُ وعياً مُغايراً، لا تلبي شروطه الكتابات الآنية، التي ترافق وقع الأحداث أولا بأول، كما في حرب مكافحة داعش، وكأنما الروائي صار إعلامياً ينجز تقريراً صحفيا لكن بشكل نصّي يُطبع، ويُكتب على غلافه (رواية).
فخ الكتابة
الروائي أحمد الدهر يشير إلى أن كتابة الحدث الحالي هو دور الصحفي الذي يبحث عن سبق، أمّا الكتابة الأدبية فتحتاج إلى إحاطة تامّة بالموضوع من جوانبه جميعاً، فالرؤية الضبابية التي تجتاح المشهد السياسي أو الاجتماعي لا تنزاح إلّا بعد فترة من
الزمن، لفهم أسبابها والإحاطة بها، لكي لا يقع الكاتب في فخ الكتابة أو الرأي ثم يتغير رأيه بعد فترة فيندم على ما قد كتبه، هناك منْ كتب عن أحداث داعش قبل التحرير، والآن منْ يكتب عن ثورة تشرين، ولا أستبعد أن تصدر بعد مدة قصيرة روايات ومجاميع قصصية عن فيروس كورونا! الاستغراب كيف سيكون الكاتب ملمّاً بالموضوع، وما المعالجة التي سيطرحها إذا أجزمنا على شرط المعالجة.
أمّا نقل الحدث فهذا ليس بدور الكتابة الأدبية وإلّا أصبحت أشبه بكتابات صفحات التواصل الاجتماعي.
والذين يستعجلون في كتابة الحدث هم ركّاب الموجة، ويبحثون عن ما يجعل كتاباتهم تنتشر بشكل أكبر، وهذا فخ آخر، فلا أحد يريد أن يقرأ عن شيء قد عاشه وكان شاهداً عليه وبالأخص الأحداث السياسية، وهذا ما لا يليق بالكتابة الأدبية، فكما نعلم أنّها تحتاج إلى رؤية خاصة بالكاتب، كيف سيطرحها إذا ما كان الحدث لم يمر عليه فترة من الزمن لتتوضح الصورة كاملة أمام مخيّلته ليكون نتاجاً أدبياً مكتملاً؟.