سلام دوّاي: وطنُ الشاعر هويته
ثقافة
2020/03/11
+A
-A
حاوره من بغداد: حسن جوان
بالإضافة الى جهوده الترجمية، يُعدّ سلام دواي أحد أكثر الأصوات الشعرية فرادة ونأياً بلغته عن النمطية التي تغري البعض للوقوع في فخ التكرار. هو يكتب خارج اللغة وحذلقتها، خالقاً بمجساته الخاصة قصائد يبقى الشعر فيها روحاً محايثاً للعبارة لا معتمداً عليها. أصدر «اغنية شخصية» و «هايكو دفتر» و « عكاز تحت ضوء القمر» ومؤخراً « شكراً بابا بابلو». تواصلنا معه في مقرّ اقامته في استراليا فكان هذا الحوار الخاص بـ»الصباح» :
*هل توافق على أن الشعر أصبح أكثر ندرة رغم اتساع أفق الكتابة ورقياً وإلكترونياً .. وإلى ماذا نعزو ذلك؟
- هذه الظاهرة لا تخصّ الشعر وحده، تعدد قنوات الاتصال ساعد الانسان أن يتغلب على صعوبات نشر منتجه الثقافي بجميع أنواعه، فصرنا نشاهد مئات الأفلام والأعمال الفنية ونقرأ عشرات الروايات والقصائد لنعثر على واحد أو واحدة فقط من تلك الاعمال فيها من النضج ما يوازي وعينا، لقد جُبل الانسان على التقصّي لاقتناص الجيّد والمؤثر في كل منتج، ومن هنا سيسهم هذا الاتساع في توجيه النظر نحو النادر والاستثنائي وتقصيه وسط هذا الركام. الندرة هي حقيقة المنتج الثقافي والفني والتي رافقته من النشوء إلى الارتقاء.
*هل أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في كسر عزلة الشاعر وثلم جدران المنفى؟
-بالنسبة لي، تجربتي مع الفيسبوك لها أسباب مختلفة ولا تنحصر في محدودية منافذ النشر، أو الانتشار السريع، كان سببها الوحيد هو العزلة، فأنا أقيم في استراليا، هذه الإقامة فرضت علي شروطها الصعبة، وأصعبها بالتاكيد هي العزلة عن الوسط الثقافي العربي والعراقي، هذا الحصار أدى الى قطيعة مع النشر، والحضور والتفاعل، ثم وجدت نفسي تدريجيا أنقطع عن الكتابة لصالح الحياة العملية.
لقد كاد أن يكون هذا المصير نهائياً لولا دخولي هذا العالم الأزرق، الفيسبوك أنعش علاقتي بالوسط الثقافي، ولبّى حاجتي للتفاعل الثقافي مع أصدقائي المثقفين الأصليين وأضاف اليهم العديد من المثقفين الافتراضيين، أي أنه انتشلني من عزلتي وأعادني مثقفاً فاعلاً في وسطه من جديد، ليس على صفحتي الشخصية فقط، بل في الصحافة الورقية أيضاً، فهي الأخرى أصبح لها حضورها القوي في هذا المجال وأصبحت تختار ما يناسبها لنشره على صفحاتها.
من جهة أخرى فإنّ الفيسبوك مساحة نشر واسعة، وكونية اذا كان المستخدم يجيد اكثر من لغة، وهذه خاصية تغري لاستغلالها من قبل مثقفين راسخين أو جدد على حد سواء.
اذا نظرنا من زاوية الشعر، فإن الفيسبوك يمثل حلّاً ،أو ردّاً على حصار النشر المفروض عليه من قبل دور النشر، لقد عانى الشعر منذ تسعينيات القرن الماضي من تهميش كبير ومنظّم من قبل دور النشر، فصار من المستحيل ان تنشر هذه الدور كتاباً شعرياً حتى لو كان لأهمّ الشعراء، لكنها لا تتوّرع من نشر أي شيء يقرر كاتبه بانه شعر، اذا دفع الثمن، فأدّى هذا الى نشوء تلال من الكتب الشعرية السيئة، التي ساهمت اكثر في تهميش الشعر والإساءة اليه.
ومن وجهة نظر شاعر، اعتقد بأنّ الفيسبوك أعاد الاعتبار للشعر وجعله بالمواجهة التفاعلية بين المثقف النخبوي والعادي، إنّه وسيلة نشر سريعة وفعالة تعزز الجيد وتسقط الغث في نفس لحظة نشره من خلال ردود الفعل الحية التي يتلقاها النص من قارئيه، بعكس دور النشر التي تنشر للذي يستطيع دفع الثمن، فشكلت منشوراتها الرديئة حاجزاً عزّز سوء الفهم لدى المتلقي.
*ما الأثر الذي تركه المنفى على قصيدة سلام دواي ؟
- ليس المنفى سيئاً، من يقول لك العكس فهو يكذب، أو يتبنى لعبة عاطفية قوامها الذكرى واللغة ليمرر تجربة شعرية ضعيفة قائمة على صور وطنية ضيقة وكأنّ الشعر تجربة سياسية وجغرافية محدودة بلا أي بُعد انساني. لقد تغير مفهوم المنفى في الربع الأخير من القرن الماضي، فقد أصبح اختيارياً يسعى إليه كل من يبحث عن العدالة والحريّة، إنه خلاص فردي منفصل تماماً عن أي قضايا وطنية أو قومية، أو أيدلوجية عظيمة كما كان في السابق، أمّا إذا كنت تقصد الغربة، فالغربة رفيقة الشاعر حتى في بلده، وبيته، وبين أهله. لقد استفادت قصيدتي من المنفى كثيراً، مُذ عرفت أنّ اجترار الذكرى يقتل الشعر، ويجعل من القصيدة الحديثة قديمة تفوح منها عاطفة فجة، وغير مقنعة، وأنها تجبرني على استخدام نفس القاموس اللغوي الذي خرجت به، انه محجر، وياله من محجر! المنفى ينبّهك الى إنسانيتك ، فحين تعيش وسط أناس يتحدثون عشرات اللغات التي تختلف عن لغتك، ويمارسون الاف العادات التي تختلف عن عاداتك، ويدينون بديانات عديدة تختلف عن ديانتك، ويفكرون من زويا مختلفة عن زوايا تفكيرك، إنّ الكون كله حولك، ما عليك سوى أن تتغير لتصبح جزءاً منه بشكل حقيقي، كل هذا يجعلك أن تكتسب من ثقافات الكون الواسع وبالتالي ستتأثر طريقتك بالكتابة لان منظومة تفكيرك تعرضت الى هزّة هائلة، ما عليك سوى استثمارها وإلا ستبقى في معبدك القديم .
* هل تقرأ قصائدك أيّام المحنة والوطن كتاريخ تجاوزته، أم تعدّ تجربتك الحالية امتداداً لتلك الخبرات؟
- التجربة ابنة ظرفها وزمانها، لكن هذا لا يعدم امتداد تأثيرها في سقي التجارب اللاحقة، لان المغايرة هي أصلا ابنة الماضي، وفي التجارب الإبداعية الكبيرة هناك دائما مرتكزات غائرة في العمق الذي يحضر غالباً دون أن تستدعيه، فحركة الكتابة حركة شاملة، اشعر دائماً وبرغم اختلافي الشديد مع تجاربي السابقة، باني امتداد لها، لكنه امتداد يسعى دائماً الى الاختلاف والتجاوز . هنا التراكم هو الممر الوحيد للتجاوز، ومن البديهي أن هذا ينطبق ليس فقط على الشعر والآداب والفنون بل إنه ينطبق على السياسة والاقتصاد والعلوم والرياضة وكل شيئ، فلماذا نجعل من البديهيات أزمة لنشبعها بالنقاش و “نشبعنا” بالأسئلة الدائرية حدّ الدوخان.
ما أريد أن أقوله هنا هو أن قصيدة النثر شكل حديث لا يمكن أن يكتبه بشكل مبدع “بمقياس النقد وليس مقياس العاطفة” الا شاعر هضم تلك التراكمات وعرف الوزن وجرب فيه، لانه وببساطة شديدة ان غياب الموسيقى أو ضمورها في قصيدة النثر لا يلغي عنها الوزن، فالوزن ليس فقط التقاء الحرف مع نفسه بعد كل مقطع، قد يتكون الوزن من إيقاعات اخرى ليس لها رتم أو نظام، إيقاع معنوي يحس ولا يسمع مثل الصدمات المتلاحقة من انتاج معنى يختلف عما تحمله الكلمة من معنى قاموسي، وقد يتكون من اختلاف الأصوات وليس التقاءها، وغيرها الكثير من العلاقات الداخلية.
* عطفاً على سؤالي السابق، بما أنّ جُلّ ذاكرتك تكوّنت في العراق، هل يحدث أن تحتطب احياناً
في تجاربك الحالية من تلك الذاكرة؟
- نعم أحياناً تكون الذاكرة مشحاذاً للخيال وحتى دافعاً للكتابة، لكن لا ينبغي الاعتماد عليها دون محاولة في إعادة التخليق، وهذه احدى مهام الشعر، ومن مهام الشعر ايضاً أن لا تتكرر، وان لا تبقي الذاكرة في حدودها العاطفية، الاغتراف من الذاكرة قد يكون فخّاً للتجربة، إذا لم يصحبه العمل الذكي والدراية بتقنيات الكتابة الحديثة، للان التوظيف في الشعر أصلا ليس عملاً شعرياً، إنه لعبٌ لغوي أحرص على تجنبه باستمرار. فمثلما تتحمل قصيدة النثر التأملات الفلسفية ،والاستعراضات اللغوية، تتحمل أيضاً أفكارا مختلفة تبدو للكثيرين غير مألوفة في إطارها ،هذا رأي وليس بيانا،وهو قابل للطعن والنسف،وحتى الشتم،لاشيء نهائي في الشعر، ولانهاية للأفكار التي يمكن ان تشكله.
مالفخامة اللغوية، وماهو العمق الفكري، وماهو البوح الشعري؟ من يمتلك قياسات ثابتة ونهائية؟
عن نفسي أنا لا اعتقد أن هذه المواصفات والقياسات حقيقية، انها مسألة ذائقة تربينا عليها، وفرضت علينا، أمّا عن العمق فأنا اعتقد بعدم وجود جملة دون عمق، لانّ المعني بالعمق هو ذهننا الذي عليه ان يجده.
ولدت بقلب ضعيف، لكني حين عرفت الشعر، تحول قلبي الى طائر يغادر قفصي الصدري أنى يشاء، ليعود محملا بمشاعر غريبة، تلدغني مثل نحل.
كل يد صارت يدي، كل عين، كل فم، كل رأس، كل ميت وكل حي.
كل حلم هو حلمي.
* ترجمت الهايكو وكتبته، ما الذي جذبك نحو هذه المهمة، وكيف تنظر الى قصيدة الهايكو العربية ؟
- لقد أحببت لحظات الهايكو لأنها لحظات تأمّل إذا عرفت شروطها ستنقلك الى آفاق واسعة من المعرفة والإنسانية، وتجعلك قادرا على التعبير عن أشياء عميقة، بكلمات قليلة وبسيطة. انا بطبعي أحبّ الضياع والتأمل في الطبيعة، أحبّ ملامسة الاشياء بعقلي وحواسي، وليس بيدي، لقد مارست رياضة التأمل مع أصدقاء آسيويين ورهبان بوذيين، ولامست حقيقة الهايكو ودرستها بعمق، فأردت نقلها الى العربية، لقد كان هوساً يقع عليّ اتمامه، هكذا كنت اشعر لان ما موجود في المكتبة العربية (او الذي اتاحت لي ظروفي الاطلاع عليه) ليس غير كاف فقط، إنما هي مجرد ترجمات مزاجية مبتسرة، فقمت بترجمة مختارات من الهايكو الياباني الكلاسيكي ودعمته بدراسة مختصة، وقد حقق هذا الكتاب اعلى نسبة مبيعات في مكتبة النيل والفرات، وهذا شجعني لأنشر كتاباً ثانياً عن الهايكو الإنگلوأمريكي مع دراسات مهمة إحداها للشاعر عزرا باوند. نأتي الى الجانب المحرج من السؤال حول الهايكو العربي، لقد عرفت الثقافة العربية الهايكو ربّما في سبعينيات القرن الماضي، وتعامل الشعراء معه في البداية قراءة وليس كتابة، وحين كتبوه لاحقا فعلوا ذلك دون تجربة حقيقية ودون دراية كافية، انهم ببساطة يكتبون الومضات والصور، وهذه ليست هايكو، فالهايكو ليس ومضة ولا صورة، انه لحظة باستطاعتها ان تنقلك الى كون شاسع، إنه ببساطة شديدة الطبيعة حين تتكلم .
* انت ترقب الوطن من أقصى الأرض وتتابع محنه وحراكاته المتلاحقة، هل تنفعل شعريّاً بما يجري هنا برغم انفكاكك حياتياً وجغرافياً عن بلدك ؟
- وطن الشاعر هويته، انه الشعور الذي يلاحقه أينما حل، لقد كنت دائماً مع بلدي في كل محنه وتقلباته، ولقد كنت حاضراً شعرياً على مدى كل تلك المحن، وحاضراً عملياً في مساندته من خلال عملي في إذاعة راديو ادلايد، وفي البيت الثقافي الفني في جنوب استراليا، وقد نظمت مع اصدقائي الكثير من الفعاليات الداعمة، لكنني قليل الكلام عن هذه الاشياء باعتبارها واجباً وطنياً وليست مناسبة للاستعراض الشخصي. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأنا أرى بأنّ الشعر ليس مجرد لافتات سياسية ترفع في المناسبات، لقد عانينا كثيراً من هذا المعيار السيئ للوطنية، فالشاعر مجموعة مواقفه وآراءه . لقد جنينا على الشعر، سرقنا منه بهجته وسلاسته، وحملناه بأحزان مفتعلة ونوائح، شوّهناه بالبطولات الزائفة، واشركناه بفتن وملاحم.
بالتأكيد سيذهب الشعراء الى الجحيم نظير ذلك !!