ستراتيجيَّة كرة القدم الإيطاليَّة في مجابهة الأوبئة

الرياضة 2020/03/29
...

ترجمة: جمال جمعة*

في خضم أزمة فيروس كورونا، ينبغي أنْ نتذكر ما علّمنا إياه الإيطاليون المتضررون بشدة عن مكافحة الأوبئة. فإذا تعاملنا مع التراجيديا بشكل صحيح، سيمكننا أنْ نراها بمثابة تدريبٍ استعداداً لأزمات أكبر في المستقبل، ويمكن حتى أنْ يكون لها عواقب إيجابية، على سبيل المثال امتنان وروح اجتماعية أكبر. ها هو قد وصل، وثمة مناخ من الطاعون. لكنه أضحى أكثر من مناخ، أضحى وباءً حقيقياً. وهذا يعني الإقصاء وحجراً صحيّاً بأوسع قدر ممكن للناس في منازلهم الخاصة. الدنمارك أصبحت ثاني دولة أوروبيَّة بعد إيطاليا تُهزم وتلجأ إلى الدفاع.
يمكن للمرء أنْ يقارن (وهذه مجرد مقارنة هيكلية، مع طرح كل الاختلافات الجادة جانباً) الوضع الوبائي مع حالة الطرد في كرة القدم. عندما يُطرد أحد لاعبي الفريق، فإنَّ الأمر لا يعودُ يتعلق بالإبداع، أو التهديف، ولا إلقاء اللوم على النفس بأي شكل من الأشكال. بل كل شيء سيتمحور بالنسبة للاعبي الفريق حول إغلاق المناطق، الاهتمام بمراكزهم ومهماتهم الأساسية وترك الوقت يمر.
هذه الستراتيجية لإحراز (0 - 0) تُسمّى بالإيطالية "كاتيناتشيو" Catenaccio، أي: مزلاج الباب. يغلق المرء فيها سلسلة الدفاع، ويقاتل من أجل (0 – 0)، ويأمل بهجوم مضاد. لقد شاهد ذلك عشاق كرة القدم في مباراة نابولي على أرضه أمام برشلونة قبل أكثر من أسبوعين بقليل.
إيطاليا مثالٌ يحتذى بطرق عديدة. لا يقتصر الأمر على إغنائنا بأسلوب الكاتيناتشيو، بل لأنَّ لديها تقاليد عريقة في مكافحة الأوبئة، وها أن المصادفة لعبت دورها الآن لتجعلها من جديد قدوة تنظيميَّة يُحتذى بها. إنه ببساطة اتفاق القدر في أنْ تكون ستراتيجية مكافحة الوباء الحالية ـ الكاتناتشيو السكّاني ـ قد تم تطويرها في إيطاليا بالذات.
القاعدة الأساسيَّة في عموم مكافحة الأوبئة هي ألا تلامس. يطلق عليها في لغة الاختصاص مصطلح (Antitaktilitet)، أي: عدم اللمس. عندما يضرب الوباء منطقة ما، فإنَّ أول ما يفكر به المرء ويفعله هو، كما عبّرت (رئيسة الوزراء الدنماركية) ميته فريدريكسن: أنْ قفوا معاً من خلال الابتعاد عن بعضكم البعض! إنَّ الأوبئة هي ببساطة استفزاز للشعب: "نظّموا أنفسكم وإلاّ ستموتون. ما الذي ستفعلونه الآن؟". والشيء الأول والأكثر تأكيداً هو منع العدوى. جاء مصطلح العزل من مفردة "isola" الإيطالية، التي تعني: جزيرة. يمكن للمرء إرسال الناس إلى جزيرة ما أو بناء جزر في المدينة، والتي تحاكي الحجر الصحي المنزلي.
إذا عكسنا عملية مكافحة الوباء، فسنحصل على سلاح بيولوجي. في 21 شباط 1495، حاول الفرنسيون غزو نابولي. قام النابوليّون (وهم الآن هناك مرة أخرى) بإرسال شابات جميلات مصابات بالزهري إلى الشوارع التي استباحها الفرنسيون. وبعبارة أخرى، تم البدء في عكس مبدأ عدم اللمس. بالدنماركية يسمونه: إغراء اللمس.
ثمة أمثلة لا حصر لها عن انقلاب مكافحة الوباء رأساً على عقب وتحولها إلى سلاح بيولوجي. أحد الأمثلة الأولى كان في الواقع هو السبب الذي جعل الطاعون يأتي إلى إيطاليا في العام 1347، أي حين قذف التتار بالمنجنيق الجثث المصابة بالطاعون على مدينة "كافا" التي هي أوكرانيا حالياً، ما جعل قسماً من سكانها يفرون إلى إيطاليا.
في العام 1347 تم رفض استقبال السفن في مدينة "جنوة" الإيطالية، ما أدى إلى انتشار الطاعون على امتداد نهر الراين حتى برشلونة. غالباً ما يتم تشبيه انتشار الطاعون بحرائق السهوب، لكنَّ الأمر استغرق على كل حال عامين، 1347- 1349، لكي يصل الطاعون من إيطاليا عبر أوروبا إلى النرويج.
 
نحسب أياماً
الحركة أصبحت محمومة أكثر من ذلك بكثير. إنَّ ما أشدنا به على أنه سرعة الحركة والانهيار الليبرالي لجميع الحدود يتجلى الآن على أنه طرقٌ سريعة للوباء. في زمن الطاعون والقرون التي تلته، كانت التجارة والحرب هي السبب الرئيس لانتشار الأوبئة، واليوم هناك أيضاً السياحة والتنوّع.
عندما يكون الإيطاليون مثالاً لنا، فذلك لأنهم أيضاً طوّروا حالياً الستراتيجيات اللازمة للحد من الأوبئة. ليس اللقاح (تم تطويره لأول مرة في أواخر القرن الثامن عشر) ولا حتى تطوير علم الأحياء الدقيقة، الذي طُوّر لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، لكنَّ صقل الستراتيجيات المضادة للّمس.
مع مرض الجذام، خاصة من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر، تم في البدء استخدام طرد الأرواح الشريرة، أي: النفي. ستراتيجية مكافحة اللمس التي تم تطويرها خلال فترة الطاعون في إيطاليا كانت هي ما يسميه المرء "الاتّقاء"، أي: الوقاية.
عندما يأتي شخص ما إلى المدينة، كان يتوجب عليه أنْ يبقى خارج المدينة لمدة 40 يوماً، إذ كان يُعتقد أنَّ الناس يموتون بسبب الطاعون خلال 37 يوماً. وإذا لم يكونوا قد ماتوا خلال ذلك الوقت فهم إذنْ غير مصابين بالطاعون وسيمكنهم دخول المدينة. الكلمة الإيطالية "quarantina" تعني: أربعين، ومنها جاء مصطلح الكرنتينا (الحجر الصحي).
ولكنْ ماذا يفعل المرء إذا كانت المدينة قد أصابها الطاعون بالفعل؟ هذه الستراتيجيات الخاصة بالقرن السابع عشر، والتي يمكننا التعرف عليها الآن في الحجر الصحي المنزلي حالياً. تم، على وجه التحديد، بناء الحجر الصحي الخارجي داخل المدن ووضعت لوائح تفرض على الجميع البقاء في المنزل لمدة 40 يوماً.
كان على كل أسرة أنْ تظهر نفسها في النوافذ كل صباح، حيث يتجوّل أحد الضباط ويحصي سكان المدينة. كانت هنالك قوانين لنقل المواد الغذائيَّة إلى البيوت وقواعد حول كيفيَّة تنظيف منازلهم. المدن استجابت لاستفزاز الوباء "نظّموا أنفسكم وإلاّ ستموتون"، وبقوا على قيد الحياة كمدينة.
إنه اتفاق القدر التي جعل إيطاليا ذاتها هي التي تغلق على نفسها في حجرٍ صحي داخلي مرة أخرى. وإيطاليا ذاتها هي التي أصبحت أنموذجنا الذي نقتدي به في التنظيم. قد يبدو الأمر عشوائياً، ولكنَّ إيطاليا، على الأقل، لديها تقاليد.
من نواحٍ عدة، فإنَّ انتشار الفيروس التاجي (Covid-19)، هو حدثٌ اقتحامي. لم تكن الغالبية العظمى منا تعاني حتى الآن من الفيروس التاجي حتى وقت كتابة هذا المقال (منتصف آذار2020)، ولكنَّ قسماً كبيراً منا سيكون قريباً من ذلك. وسوف ننجو منه. لقد سمعنا أيضا عن السارس في (2002 – 2003)، ومن ثم عن إنفلونزا الطيور، وطاعون الخنازير. 
 
اقتحمنا فجأة
في العام 2015، أضحت المنطقة عاملاً متكرراً للدهشة، عندما تمشّى اللاجئون عبر الطرق السريعة الدنماركية. إذ كانت الهجرة في السابق تتعلق ببلدان شاهدناها على شاشة التلفزيون، وفجأة نراهم الآن شاخصين هنا على مفترقات الطرق الدنماركيَّة.
بعد أنْ اعتقدنا من خلال الأحلام الليبرالية، والاعتبارات الفلسفية من حقبة منتصف الستينيات، أنَّ هدم الحدود كان حلاًّ لكل شيء، كان علينا أنْ ندرك أنَّ المنطقة مهمة من جديد.
بالنسبة للأشخاص الذين هم مثلي يشعرون بالحنين ويحبون الكرة الأرضية الملونة لأنها تعبير عن التنوع، لم تعد عودة المنطقة تستدعي مدلولات سلبية.
وبالمثل، فقد أعاد الفيروس التاجي للسكان معنىً كان من الممكن أن يتلاشى. في الأيام الأولى، كان الأمر يتعلق بتعليق تعبيرات المجاملة والمحبة. العناق والمصافحة ينبغي على المرء تجنبهما. الآن تحول إلى حجر صحي منزلي وعزلة وفقاً للنموذج الإيطالي في الماضي والحاضر.
في حالة كل من الإقليم والسكان، فإنَّ هذا التدخل يعني أنَّ الدولة قد تدخلت في ما هو شخصي. وإلاّ فإنَّ الصوت المقرِّر للدولة سيكون في خلفيات السوق، وبالنسبة للشركات الكبيرة، في كثيرٍ من الأحيان بدت الدولة ضعيفة بشكل غريب. ربما نستطيع الآن أنْ نتذكر لماذا من الجيد أنْ تكون هناك دولة قوية.
سيموت الآلاف بسبب الفيروس التاجي. دعونا لا نضع أصابعنا في عيوننا. بعض الحجر الصحي الذي تم إعلانه للتو يتعلق بعدم إرهاق أخصائيي الرعاية الصحيَّة، وعدم تأخير العلاجات الأخرى أو منعها، وعدم تصاعد تفشي الفيروس بسرعة كبيرة. العديد منا سيصاب بالفيروس التاجي لأنه مُعدٍ للغاية، وهذا سيمضي بالتأكيد. دعونا نتعقّل ونأخذ الأمر على محمل الجدية.
فضلاً عن الوفيات المأساويَّة، ستكون هناك بعض الآثار الإيجابيَّة للفيروس التاجي على المدى البعيد.
الأول: هذا تمرين على حالة طوارئ. إنه أمر خطير، ولكنْ من المحتمل أنْ يصبح أكثر خطورة في المستقبل. ليس من حسن حظنا فحسب أنَّ الفيروس أتى إلى بلدان أخرى قبلنا، لكن كذلك لأنَّ معدل وفياته هي أقل من 1 في المئة. بلغت الوفيات بوباء السارس في العام 2002 نسبة 10 في المئة، ووفيات الانفلونزا الإسبانية* قبل 100 سنة 20 في المئة، والجدري 60 في المئة. نحن نتمرن الآن على أمرٍ يمكن، وربما سيكون، أكثر استمرارا وخطورة.
ثانياً: في الصراع بين المناخ والرأسماليَّة، النتيجة ليست مثيرة للإعجاب. نتحدث كثيرا عن إعادة الجدولة، لكننا نعمل باستمرار على زيادة استهلاكنا من ثاني أكسيد الكربون. نحن ببساطة لسنا مهددين بما فيه الكفاية.
ولكنْ كما هي الحال دائما، فإنَّ الأوبئة ملهِمة بشكل حرج. لن يمكننا السفر في عيد الفصح، لذا علينا البقاء في المنزل. ربما هذا ليس سيئاً، ففي غضون فترة وجيزة لن يمكننا استهلاك السلع الصينيَّة. وهذا أيضاً ربما 
لا بأس به.
 كيف ستحصل على سترة جديدة كل خمسة أشهر؟ سيتوجب عليك استبدالها أو إصلاحها، وسيكون كل شي على ما يرام. وبالتالي، فإنَّ الوضع الوبائي قد يجعلنا نعتاد على أشياء لا تستطيع الحركة البيئيَّة فعلها.
ثالثاً: ثمة قلق في ما يتعلق بالسكان. قبل أسبوع، كانت المعضلة تتعلق بالتهذيب والأخذ بعين الاعتبار. المصافحة، التي تم في الواقع ابتداعها كعلامة تباعد عن قُبلة الخد الأكثر حميميَّة، استُبدلت بتلويحة الفيروس. لكن الشيء الخاص هنا هو الأخذ بعين الاعتبار: لمن هذه التلويحة؟ هل هي لي؟ نعم، بالتأكيد. هل هي للشخص الذي بجانبي؟ نعم، إنها أيضاً ارتيابٌ ذاتيّ في أنني آخذك بعين الاعتبار.
كان هذا أيضا عنصراً أساسياً في التسويق الأخلاقي والجمالي للواقي الذَّكَري كعنصر مهم في خزانة منضدة السرير في الثمانينيات: "أنا رائع لأنني أهتم بكِ". ولكنْ الآن لدينا أيضا وعيٌ سكّاني ظاهر إلى حدٍّ ما، نعيشه الآن: كلٌّ منا يفعل شيئا من أجل السكّان.
رابعاً: إنَّ لدينا دولة تُظهر نفسها. الدولة الضعيفة، التي لا يمكنها أنْ تفعل، أو لا تريد أنْ تفعل شيئاً في ما يتعلق بالشركات الوطنية الكبرى، نشعر بها فقط في هيئة إملاءات. في المستقبل، سنشهد بالتأكيد المزيد من تدخل دولنا في الأنظمة الصحية بين بعضها البعض، بالضبط كما نراه الآن في الشؤون المالية للاتحاد الأوروبي والعاملين في النظام الاقتصادي.
خامساً: أعتقد أنه سنشعر بالامتنان اللطيف في قرارة أنفسنا. نحن نعيش يوميا في طنين خلفية الخوف والنحيب، مثلنا مثل الأميرة النائمة على وسادة تحتها حبات بازلاء في حكاية أندرسن، متخوفين من مخاطر صغيرة جدا مقارنة بالناس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. العالم أصبح أكثر أماناً بكثير، لكنَّ هذا لم يجعلنا نستعيد السلام. ربما سنكون ممتنين لأنَّ عالمنا آمنٌ للغاية، ممتنين لأننا يمكن أنْ نلتقي، ونشعر بالامتنان لنظام الرعاية الصحية الذي لديه تجارب مع الأوبئة عندما لا يكون لدينا ذلك شخصياً.
وهذا بالضبط ما يظهر بوضوح الآن: على الرغم من أننا كأفراد ليست لدينا خبرة كاملة في الأوبئة، فإن مجتمعنا ليس كذلك. لدى المجتمع خبرة طويلة في الاستراتيجيات التي تطرحها الدولة. نصيحتي لكلّ أولئك الذين تم حجرهم في المنازل، والذين لا يستطيعون العمل بدوام كامل، هي الحصول على كتاب بوكاشيوIl Decamerone، والذي نُشر للتو بترجمة دنماركية جديدة، "الديكاميرون". اقرؤوه، أو اقرؤوه لبعضكم البعض، سيكون تأثيره مهدِّئاً.
يحتوي الكتاب الصادر في العام 1349 على 100 قصة، تدور حول سبع نساء وثلاثة رجال يفرّون من طاعون فلورنسا ويقيمون في الحجر الصحي الخاص بهم. هنا، على مدى عشرة أيام، يروون قصصاً لبعضهم البعض. وهذا ربما هو الأمر الأكثر تهدئة في زمن الطاعون: أن يسمع المرء أن مثل هذا قد حدث للناس من قبل، بل وأسوأ بكثير، ومع ذلك فهم يسمحون لأنفسهم بقراءة القصص لبعضهم البعض.
*[ أندرس فوغ ينسن: فيلسوف دنماركي ولد عام 1973. دكتوراه في الفلسفة، محاضر، ومؤلف مجموعة واسعة من الكتب، بما في ذلك "Epi-demos"، وهو كتاب صغير عن الأوبئة الرئيسية، وكتب التشخيص المعاصر مثل "Project Society" و "Project Man" و "Pseudo Work" وقطعة مسرحية بعنوان "إنهم يرقصون وحدهم". بالإضافة إلى إلقاء المحاضرات، يقوم بترتيب الرحلات التعليمية والتثقيف 
الفلسفي]
* الإنفلونزا الأسبانية: جائحة إنفلونزا قاتلة انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وخلفت ملايين القتلى، وتسبب بهذه الجائحة نوع خبيث ومدمر من فيروس الإنفلونزا أ H1N1.وتميز الفيروس بسرعة العدوى، حيث تقدر الإحصائيات الحديثة أن حوالي 500 مليون شخص أصيب بالعدوى وأظهر علامات أكلينيكية واضحة، وما بين 50 إلى 100 مليون شخص توفي جراء الإصابة بهذا المرض، أي ما يعادل ضعف المتوفيين في الحرب العالمية الأولى.
وعلى الرغم من تسمية هذا الوباء بالإنفلونزا الأسبانية إلا أنه لم يصدر من أسبانيا. ويرجع سبب التسمية إلى انشغال وسائل الإعلام الأسبانية بموضوع الوباء نتيجة لتحررها النسبي مقارنة بالدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى. فأسبانيا لم تكن جزءً من الحرب ولم يتم تطبيق المراقبة على الإعلام الإسباني، ومن المفارقات أن الأسبان أطلقوا على العدوى اسم: الإنفلونزا الفرنسية.
 
* بقلم: أندرس فوغ ينسن