جواد علي كسّار
لقد لابست فكرة الشرّ الوجود الإنساني منذ بواكيره الأولى، فبالإضافة إلى الأديان الكتابيَّة اعتنت الحضارات الإنسانيَّة القديمة في بابل وما بين النهرين ومصر والهند وفارس واليونان بالمسألة وبلورت العديد من النظريات حيالها.
من جهته قدّم الفكر الفلسفي والديني عدداً من التكييفات النظرية لمعالجة إشكالية الشرور، ربما كان أبرزها وأكثرها صدىً في مناخات هذا الفكر أطروحة عدمية الشرور. الأساس في هذه الأطروحة أنها تذهب إلى عدم وجودية الشرور، ومن ثمّ فهي لا تحتاج إلى مبدأ فاعلي يوجدها لأنها أعدام أو ترجع إلى العدم بحسب اللغة الفلسفيَّة.
لم يعد لإشكالية الشرور في اتجاهات الفكر السائدة في العالم الإسلامي وفي المشرق عامة، شأن يذكر على الصعيد الفلسفي والفكري، بإزاء التنامي المطّرد والاتساع الخطير في رقعة الشر الاجتماعي الناشئ عن الفعل الإنساني ذاته، وتفاقم آثاره بما يهدّد وجود الإنسان نفسه.
بتعبيرٍ أوضح أصبح من المضحك حقاً الحديث عن الشرور الطبيعية الناجمة عن الزلازل وأمثالها، والشرور الوجودية الناشئة عن لدغات العقارب والحيات وافتراس الوحوش والوساوس الشيطانية، في مقابل الشر الهائل الذي يصدر عن الإنسان في العالم المعاصر.
ففي حرب طاحنة واحدة أُطلق عليها الحرب العالمية الثانية خسرت البشرية أكثر من خمسين مليون إنسان، كما أن مرض الإيدز وحده يهدّد البشرية بضحايا مرتقبة لا تقلّ عن الخمسين مليون إنسان!
على أن هناك ما هو أخطر من هذه الأرقام؛ هناك الستراتيجيات التي تعتمدها أمم العالم وشعوبه ونظمه على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة، مّما يجرّ إليه أضراراً فادحة على حياة الإنسان ووجوده وكرامته. بلغة الأرقام تتحمّل البشرية من الأضرار حاضراً ما يمكن أن تتحمله من انفجار قنبلة ذرية. فعدد من يموت من الفقر والجوع، ومن يعاني من قلة المياه وسوء التغذية ومن الأمراض في كلّ يوم، يعادل ضحايا قنبلة نووية على حدّ وصف روجيه غارودي في كتابه عن الأصولية. الأهمّ من ذلك أنَّ هؤلاء الضحايا ينتمون في غالبيتهم العظمى إلى الرقعة الموسومة بالعالم الثالث، وهم ضحايا سياسات الأنظمة الغربيَّة والأنظمة التابعة على السواء.
أما في ظلّ ستراتيجية العولمة في بُعدها الاقتصادي، فإنَّ البشرية تتجه على ما يسجّل هانس بيتر مارتين وهارالد شومان في كتابهما «فخّ العولمة»؛ تتجه صوب عالم خمسه ثري وأربعة أخماسه فقراء، وهذه هي النسبة عينها التي تنتظم الثروة العالمية حاضراً، حيث تمسك دول الشمال وتستهلك 80 % من ثروات العالم وخدماته، في حين يستهلك المتبقي من أبناء البشر عشرين بالمئة فقط من الثروات والخدمات!
الآن يبدو أنَّ هذه الخريطة لم تعد تناسب أصحاب الرساميل والثروات العظمى، فراحوا يخطّطون لإعادة توزيع الثروة مجدّداً في بلدانهم على ضوء النسبة ذاتها، بحيث يحتكر هؤلاء 20 % من الثروات وفرص العمل والخدمات ومظاهر الرفاه المعيشي، في حين يعيش 80 % على هامش هؤلاء السادة الأغنياء.
السؤال المصيري؛ هل يمكن لفيروس كورونا أنْ يقلب هذه الموازين التقليديَّة لصالح عالم جديد، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار خرائط الجغرافية المكانية لانتشاره في أوروبا وأميركا، وما يترتب على ذلك من كوارث اقتصاديَّة؟!