انقشاع غيوم الكورونا

ثقافة 2020/04/09
...

سعيد الغانمي
 
تقسيم الأمراض إلى أمراض وأوبئة وجوائح تقسيم اجتماعي، وليس طبياً، والمرض هو الاختلال الجسدي الذي يعتري شخصاً واحداً، حتى لو كان ينتقل بالعدوى. والوباء هو الاختلال الجسدي، الذي ينتشر في منطقة كاملة، سواء أكانت قرية أم مدينة أم دولة أم أي تجمع سكاني. 
أما الجائحة فهي الوباء الذي يجتاح العالم بأسره، لكن الأمور في كثير من الأحيان نسبية، فقد يوصف الطاعون مثلاً بأنه وباء أو جائحة، وقد يوصف مرض عادي بأنه وباء، إذا أرادت وسائل الإعلام تضخيمه والتخويف منه. وفي العادة غالباً ما يقترن ظهور الأوبئة بنزعة عنصرية شديدة ترافقها. في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حين ظهر الايدز لأول مرة، ادعت وسائل الإعلام الغربية بأنه جرثومة "إفريقية" تطورت عن جرثومة "قردية"، فما كان من وسائل الإعلام السوفيتية حينئذٍ إلا أن ردت بالمثل، وزعمت أنه مرض "أميركي" بالتحديد، فنشرت مجلة "سبوتنك" ملفاً خاصاً عن المرض، زعمت فيه أنه مصنَّع في مختبرات البنتاغون السرية، وليس من شك في أن هذا استثمار أيديولوجي للوباء، مع انتشار كورونا حصل الشيء نفسه، فقد أصرَّ الرئيس الأميركي ترامب على تسميته بالفيروس الصيني، بينما صارت وسائل إعلام شرقية تروج له باعتباره مصنَّعاً أيضاً في مختبرات أميركا السرية، وأنها وحدها تمتلك الأمصال المضادة له، وستخرجها حين تقتضي حاجتها.
بالطبع يجب أن نزيح المبالغات جانباً، ونترك المسائل التقنية للمختصين، ونحصر اهتمامنا هنا بالنتائج الثقافية والاجتماعية، التي يحملها ظهور فيروس كورونا. ونحن نعرف جميعاً أن العولمة كانت قد حققت إنجازات لا يستهان بها، وكثيراً ما تفخر بأنها أنتجت من وسائل الاتصال الحديثة، ما جعل العالم القديم بأسره يبدو وكأنه "قرية صغيرة واحدة"، بعد أن كان مجموعة من الكواكب المنفصلة المتناثرة المتصارعة. لكن ظهور كورونا أخلَّ بهذه المعادلة على نحو مأساوي، فسجن جميع سكان المعمورة في بيوتهم، وربما في غرفهم الخاصة، وبذلك حول العالم الذي كان قرية واحدة إلى سجون فردية أشبه بالزنزانات، وهي زنزانات لا صلة بينها إلا وسائل الاتصال التي خلقتها العولمة.
ولا يخفى أن الاقتصاد لا بدَّ من أن يتدخل ليجني أرباح مأساة آلاف الأرواح، من دون مراعاة للضمير أو الأخلاق، يقال إن الصين استغلت مأساة كورونا، فتمكنت من تأميم آلاف المصانع الصغيرة، التي يمتلكها غربيون، فباعوها للدولة الصينية بأسعار زهيدة، هرباً من الجائحة، وكذلك صارت الدول الغربية تتسابق للإسراع في بيع أجهزة التنفس الاصطناعي، واحتكار حقوق الأمصال المضادة مستقبلياً، على النحو نفسه بدأت تشح في الأسواق العادية بعض المنتجات، وتكثر منتجات أخرى، وهنا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أننا إذا أصبحنا سجناء في بيوتنا، بعد بحبوحة تحويل العالم إلى قرية صغيرة، وليس لنا من نافذة نطلُّ بها على العالم سوى وسائل الاتصال الحديثة، فهل ستكتفي وسائل الاتصال بهذه الروح الخيرية الفاضلة، من دون استثمار احتكارها اقتصادياً؟
من ناحية أخرى، ومهما ذهب بنا الخيال بعيداً، فإن هناك قوى ومؤسسات تفكر بالحروب المستقبلية في العالم. وفي الأغلب فسيكون جزء غير قليل من حروب المستقبل متعلِّقاً بالأسلحة الالكترونية والجرثومية. ولذلك لا بدَّ من أن نضع نصب أعيننا وجود جهات تخطط لاعتبار ظاهرة الكورونا تمريناً على الحروب الجرثومية في المستقبل.
ولكن مما يريح الخيال بالطبع أن نتصور أن الكورونا هو وحش "طبيعي" موجه ضد "الإنسان" في كل مكان، مثلما تذهب إلى ذلك أفلام الكوارث الأميركية. وهو ليس سوى اختلال في الطبيعة نتيجة اعتداء الإنسان المتواصل عليها، ربما يحصد آلاف الأرواح، وقد تصل ضحاياه إلى الملايين، لكن البشرية في النهاية ستتمكن من القضاء عليه، وهكذا سوف تتوحد جهود الإنسانية، وتتوصل إلى علاج تتخلص به من الكورونا، كما تخلصت من قبل من الطواعين والكوارث والأوبئة التي عصفت بسكان الكرة
الأرضية.