يُسألُ أدونيس في كثير من اللقاءات التي تُعقد معه عن جائزة نوبل للآداب سؤالاً لا معنى له تقريباً وقد ينطوي على كثير من السذاجة والاستفزاز، ويكاد يجيب على مضض جواباً واحداً عن هذا السؤال المتكرّر دوماً بلا جدوى، وهو أنّ المشكلة ليست مشكلته بل مشكلة المسؤولين عن نوبل، بحيث ينبغي أن يتوجّه السؤال إليهم.
ونجد أنّ توجيه السؤال لأدونيس عن أسباب عدم نيله الجائزة حتى الآن يتضمّن استفساراً في غير محلّه فضلاً على أنّه غير مناسب، فماذا يمكن أن يجيب عن قضية لا علاقة له بها وليس هو مسؤولاً عنها على الرغم من أنّه هو موضوعها ومحور تأثيرها وسجالها؟
جائزة نوبل للآداب هي أرفع وأغلى جائزة تُمنح للأدباء في العالم ويتمنّاها أيّ أديب بالتأكيد.
وقد حصل عليها كثير من الأدباء، كان آخرون من المرشّحين وغير المرشّحين أحقّ بها، وثمة أدباء عظام لم يحصلوا عليها وكان شرف كبير للجائزة لو حصلوا عليها، إذ لا توجد معايير صحيحة ودقيقة تماماً يُمكن أن تُعتمد في قياس من يستحق بوجود مرشّحين كثر يستحقّون، والقضية تعود الى لجنة أكاديميّة نوبل في تعاطيها مع الموضوع على وفق مقاييس خاصّة بهم، قد لا تقوم كليّاً على معيار الاستحقاق الأدبيّ الصرف وربّما تتدخّل عوامل كثيرة في توجيه بوصلة المعيار بعيداً عن نظرية المؤامرة.
أدونيس وعلى مدى سبعة عقود من العطاء الشعريّ والنقديّ والفكريّ النوعيّ والعالي المستوى بوصفه أحد أهمّ روّاد القصيدة العربية الحديثة ومنظّريها ومفكّريها، حصل على جوائز كبيرة من مشارق الأرض إلى مغاربها بلا عدد ولا حساب، وهو ظاهرة أدبيّة فريدة قلّ نظيرها عالمياً تسيّد منصّة الثقافة العربيّة الحديثة ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، لم يخفت بريقه على مدى هذه المساحة الزمنيّة الهائلة التي لم يقيّض لأديب عربيّ (وربّما غربيّ) خوضها بهذا النجاح والتألّق والسطوع، على نحو لم يعد في رأينا بحاجة لجائزة نوبل بقدر ما تحتاج جائزة نوبل نفسها لأدونيس حتّى تكبر به وتؤكّد نزاهتها وموضوعيتها.
فلا يحتاج أدونيس "نوبل" كي نتأكد نحن من أنّه أعظم أديب حيّ في العالم الآن، لا يدانيه أيّ أديب آخر على مستوى المنجز الأدبيّ والثقافيّ والفكريّ، وعلى مستوى التأثير في جوهر الثقافة العالميّة من أقصى المعمورة إلى أقصاها، وعلى مستوى الفاعلية التي يؤديها حتى الآن في مختلف المؤسسات الأكاديمية والثقافية والفكرية في الجهات كلّها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، فماذا ستضيف جائزة نوبل لأدونيس بعد أن حقّق كلّ هذا الذي لا نظير له في التاريخ الحديث، لكنّه إذا ما حصل عليها فإنّ تاريخ جائزة نوبل سيفخر بأنّه أحد أهم الحاصلين عليها بجدارة
واقتدار.
قبل عقود من هذا الزمن كان على أكاديمية نوبل أن تمنح جائزتها لأدونيس وليس الآن، فحجم التأثير الذي تركه في شعريّة القصيدة العربيّة الحديثة إبداعاً وتنظيراً فقط يستحق أكثر من جائزة نوبل، ناهيك عن إنجازاته الأخرى في مجال الفكر والثقافة والفن والتأثير الشخصيّ البارع في غير مجال من مجالات الإبداع، فادونيس ليس أديباً عربياً مجرّداً يكتب الشعر وينشره وينظّر له ما وسعه إلى ذلك سبيلاً، بل هو شخصية ثقافية وفكرية وأدبية متكاملة يتناثر غبارها الذهبيّ في أرجاء الكرة الأرضيّة كلّها، ونحسب أنّه انموذج متكامل بالغ التأثير عربياً وغربياً على نحو شامل ونوعيّ في آن، لا يشبهه في تاريخ الثقافة العربية أيّ شاعر أو أديب كان له هذا التأثير الفاعل والحيّ على مدى سبعة عقود بلا توقّف ولا كلل ولا ملل، إذ لم يترك شيئاً مهماً وأصيلاً وجميلاً لم يفعله بكفاءة عالية وإبداع ناضج وبراعة لا مثيل لها، فما قيمة جائزة نوبل بإزاء كلّ هذا البهاء والإنتاج والنور الذي يحيط بشخصية ضاجّة بالعطاء والحياة والأمل والتحضّر والثقافة
الحقّة؟
يمكن في هذا المقام أن نطرح وجهة نظر قابلة للنقاش بشأن علاقة الأدب العربيّ بجائزة نوبل، تتلخّص في أنّ المرّة الوحيدة التي حصل فيها العرب على جائزة نوبل للآداب كانت عام 1988 لصالح الروائيّ نجيب محفوظ، وهو يستحقها بلا أدنى شكّ، والرواية هي فنّ سرديّ حديث أخذناه نحن العرب من الغرب، أيّ أنّهم بالمحصلة يمنحوننا جائزة نوبل على براعتنا في فنّ أدبيّ أخذناه منهم بما يجعلنا على وفق هذه الرؤية حاصلين على نوبل داخل عباءتهم، في حين إنّ الشعر هو فننا العربيّ الأوّل تاريخياً وهو فننا الأدبيّ الأصيل الخاص بنا ولم نتعلّمه أو نأخذه من أحد، وهو ما يمكن أن نأخذ جائزة نوبل عنه لا عن فنّ مأخوذ ومستعار من الآخر حتى لو برعنا فيه كامل البراعة، وكان أن مرّت على أكاديمية نوبل أسماء شعريّة عربيّة لامعة في التاريخ الحديث كان يمكن لها أن تحصل على هذه الجائزة بكفاءة واقتدار كبيرين، لكنّ هذه الأسماء التي ربّما يطول تعدادها مرّت من تحت قنطرة نوبل بلا عناية تُذكَر ولم يحصل عليها أيّ اسم من هذه الأسماء
الكبيرة. لا نريد حقاً أن نحشر رؤيتنا هنا في مضيق نظرية المؤامرة التي لا نؤمن بها على النحو المتداول والمعروف في ثقافتنا الراهنة ولا نستبعدها على غير هذا النحو، لكنّ من حقّنا أن نتساءل عن عدم حصول شاعر عربيّ حتّى الآن على هذه الجائزة والشعر ديوان العرب كما هو معروف، في حين حصل روائيّ عربيّ عليها بكفاءة خارج هذا الديوان، هل علينا أن نفهم من هذا أنّنا لا نستحق هذه الجائزة إلا بوساطة فنّ تعلّمناه منهم؟ وأنّ الفنّ الأصيل الذي ينتمي لنا انتماءً مطلقاً على نحو يميّز شخصيتنا العربيّة على مرّ التاريخ ليس حرياً به أن يبلغ مصاف نوبل؟
وهل علينا أن نفترض صحّة هذا الاستنتاج كي نقتنع أخيراً أن أدونيس لن يحصل عليها أبداً؟ أو تدحض أكاديميّة نوبل افتراضنا هذا بمنحه الجائزة قريباً كي نعتذر بشدّة عن خطل
افتراضنا؟