الانتصار الدائم للتاريخ البشري

ثقافة 2020/04/12
...

يوسف محسن 
 
 
مرَّ تاريخ البشرية بسلسة طويلة من الاوبئة والتحديات الطبيعية كان ثمنها  حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، وكانت تعزو الى  قلة الإمكانات الطبية وضعف التكيف البيئوي وعدم التوصل علميا  الى الكثير من اللقاحات والأمصال لمواجهة الامراض، التي تأخذ شكلا عولميا، من هذه الامراض، شلل الأطفال و حمى التيفوئيد الوبائي، الذي انتشر في أوروبا خلال حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر، حاصداً قرابة 70 مليونا  في روسيا وبولندا ورومانيا خلال الحرب العالمية الأولى، ثم الإيدز الذي انتشر حول العالم بصورة كبيرة في ثمانينات القرن الماضي، وقتل  أكثر من 35 مليون شخص والجدري الذي تسبب في وفاة 90 مليونا من الهنود الحمر وقتل سنويا  400000 مواطن في أوروبا في نهايات القرن الثامن عشر، ثم انتشار وباء الحمى الصفراء في العام 1793 في فيلادلفيا في الولايات المتحدة، حيث  توفي 40000 شخص في فترة مدتها أربعة أشهر، في كتابه "الموت الأسود" لجوزيف بيرن، يرى المؤلف أن المرض يهدد العالم الحديث مع قلة قليلة لديها حصانة منه، خاصة أن العصر الحديث رفع قدرة البشر على السفر بعيدا وبسرعة، وبالتالي نشر الأمراض على نطاق أوسع وبشكل أسرع.
 
الأوبئة والتاريخ
كتاب "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الإمبريالية" لشلدون واتس بترجمته العربية الصادرة عن "المركز القومي للترجمة" يعد مساهمة في تاريخ الأوبئة في العالم، إذ يجري فيه المؤرخ الثقافي الأميركي واتس دراسة شاملة للأوبئة والأمراض، التي ضربت العالم خلال القرون الستة الأخيرة، منها الطاعون والجذام والجدري، والسفلس والكوليرا، والملاريا،  في الكتاب  يستكشف العلاقة بين الأوبئة وتجليات القوة الامبريالية في أميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا وآسيا وأوروبا،  يسلط هذا الكتاب الضوء على نقطتين مهمتين: الأولى ردود الأفعال فى كل من المجتمعات الأوروبية والمجتمعات الشرقية القديمة؛ مثل الهند والصين ومصر فى التعامل مع هذه الأوبئة، ونمط التحكم فى هذه الأوبئة وطرق مقاومتها، النقطة الثانية: هى إلقاء الضوء على العلاقة بين ظاهرة الاستعمار والإمبريالية وأدواتها الاقتصادية والقمعية، وانتشار الأوبئة، ويتعرض الكتاب لسبعة من الأمراض الوبائية، التي ضربت  الشعوب الجديدة والشعوب القديمة، التي استعمرتها أوروبا مثل الهند والصين ومصر.
الطاعون الأسود
يقول مؤلف كتاب  "الموت الأسود" جوزيف بيرن إن جائحة "الموت الأسود" ضربت العالمين الإسلامي والمسيحي لما يزيد على ثلاثة قرون، وانحسرت عن أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، لكنها مكثت في شمال أفريقيا والشرق الأدنى، حتى وقت قريب من منتصف القرن التاسع عشر . 
 وشهدت كل المناطق المصابة في هذه الفترة أهوال الطاعون مرة كل عقد من الزمن تقريبا، وللمفارقة كانت الأوبئة تظهر في الربيع وتشتد في الصيف وتنحسر في الخريف والشتاء، وتفرض حصارا على السكان يصل لعدة سنوات في كل مرة، ولم ينج منها أي جيل، وحتى من نجوا من المرض نفسه شهدوا محنا كبرى أصابت أصدقاءهم وأحباءهم، وتأثروا بالقيود القانونية والانهيار الاقتصادي والخوف المستمر.
 
أسوأ  كارثة
يقول شلدون في مقدمة الفصل الاول من كتاب "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الإمبريالية" : إنه في عام ١٣٤٧  اعتلت الفئران والبراغيث المصابة بالطاعون متن السفن التجارية الجنوبية في (كافا) على البحر الأسود ومرت تلك السفن الدردنيل ورست في بعض الموانئ (كبيزا وجنوا ومرسيليا) وابحرت لمصبات نهر النيل، وبانقضاء ١٣٤٨ بدأ الطاعون في مهاجمة السكان على طول الشواطئ وخلال أعوام ١٣٤٧-١٣٥١ انتشر الموت الأسود وتراوحت نسبة الوفاة بين ثمن إلى ثلثي عدد سكان حوض المتوسط، وادى إلى وفاة ثلاثة من كل عشرة من الأوروبيين، تاركا ما يقارب ٢٤ مليون قتيل، ويضيف الكاتب انه عندما أصبح محمد علي واليا على مصر في عام ١٨٠٥ في هذه الفترة وقف عدد سكان مصر ٣ ملايين بالكاد أي أقل من ثلث ما كان سابقا على ظهور الطاعون العام ١٣٤٧، يقول المؤلف "اعتبر هذا المرض أسوأ  كارثة حلت بأوروبا، وتسبب في وفاة أكثر من ربع السكان في الشرق الأوسط، وقد ابتدع الحكام الأوروبيون نظام الحجر الصحي، الأمر الذي ساعد على محاصرة المرض، ولكن ذلك تأخر في الشرق الأوسط، حتى أوائل القرن التاسع عشر، وربما ساعد أوروبا على ذلك الطابع الريفي والتجمعات السكانية قليلة العدد الذي كان سائدا في ذلك الوقت". 
وبدأت مواجهة المرض بتنظيف الشوارع من النفايات وفضلات الحيوانات، ودفن الجثث المتعفنة، ووضع سياسة دقيقة لانتقال البشر من المناطق المصابة بالطاعون إلى الخالية من الإصابة (الحجر الصحى)، ودفن إجبارى للموتى في حفر خاصة، والتخلص من متعلقاتهم الشخصية، وعزل المرضى في مستشفيات الأمراض المعدية، وحجز أسرهم في منازلهم، وفرض الضرائب لتقديم خدمة طبية مجانية وإطعام الناس الموجودين في المعازل، وتقديم المعونة لمن انهارت حياتهم نتيجة غلق الأسواق والذين لا يملكون طعاما كافيا.
 
فتح أميركا
في كتاب "فتح أميركا ومسألة الآخر" تزفيتين تودوروف هناك تواريخ مهمة  عن موت ملايين من الهنود الحمر بسبب عدوى الفيروسات والأمراض التي كان يحملها عدد كبير من المستعمرين الأوروبيين، وكان الهنود الحمر بسبب انعزالهم الجغرافي والتاريخي حديثي العهد بها. بعد وصول كريستوفر كولومبوس إلى القارة الأميركية، وخلال عقدين من الزمان تدفق الآلاف من شعوب شبه الجزيرة الإيبيرية الحاملين فيروس الجدري إلى هذه الأراضي البكر، وبذلك وصل وباء الجدري إلى أميركا الوسطى عام 1518، وإلى المكسيك عام 1521م، وإلى شعوب الإنكا شمالاً في عام 1527م.
 
انتصار الانسان الدائم
عندما يضرب وباء معولم  مجتمعاً ما، تنقلب جميع جوانب الحياة رأساً على عقب، من العلاقات داخل الأسر إلى الهيكل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تضطرب الأسواق، وتفرغ المسارح، وتمتلئ المقابر، ويحكم الشوارع حملة الجثث الذين يسمع صرير عرباتهم ليل نهار، وفي زمن الاوبئة  تظهر المعادن الخسيسة للبشر والمعادن الصالحة  تظهر أعظم البطولات وأسوأ السلوكيات  ومع كل ذلك استمر الجنس البشري بالمقاومة ضد الشر  ليشهد عصر النهضة، والإصلاح الديني، والثورة العلمية، وبداية عصر التنوير والابتكارات التكنولوجية الكبرى والاختراقات التي حققتها الأبحاث ومراكز المختبرات الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر وأدت إلى هزيمة اغلب الامراض الوبائية  في نهاية المطاف.