«الألق».. أنْ نرى من دون عيون!!

الصفحة الاخيرة 2020/04/13
...

واثق صادق
 
 
 
هل من السهل الحديث عن الحب، الاحساس، الرغبة، الفقد، الوجع، رؤية ما لا يرى؟!، إن كان باتريك - زوسكيند قد زرع في اذهاننا الفكرة المستحيلة، وهي الامساك بالعطر في عمله الذي يدور حول الهوية والوجود، فإن المخرجة اليابانية نعومي - كاواساي تحيلنا الى سؤال آخر هو ان هل في امكاننا الامساك بالمعنى والاحساس من دون استعمال أعيننا، أن نكون حاضرين بحسّنا الداخلي لكي ندرك عمق العالم، اذ اننا نبقى خارج الوجود طالما لا نشعر به الا من خلال اعيننا فقط..
يأتي عمل كاواساي السينمائي «الألق» في إطار الاعمال الرومانسية التي توظف الكاميرا لاستجلاء المعنى من ملامح الممثلين، لا من كل كادر الصورة فقط، اذ ان الثيمة الاساسية في العمل، هي كيف نشعر بالآخرين، بالعالم، بالأشياء التي تحيط بنا، وليس أدق من ملامح الوجه في ايصال ذلك للمشاهد، لذا، فقد انشغل الفيلم بما تهبه الصورة من قوة، صورة الزمن الذي يتوقف فجأة، وهو ما تجسده احدى شخصيات الفيلم في جملة: «المصور اشبه بصياد في حالة ترقب، والوقت هو فريسته..». يبدأ الفيلم بصوت انثوي شاب، يشرح الصور التي تتغير بشكل سريع، تصف ما يدور في الشارع، في محطات الميترو، وعلى مقاعد الباصات، وعلى الارصفة، في كل مكان، قبل أن نعرف أنها تلك الشابة (ميساكو) المتخصصة في كتابة (ترجمات سردية) لسيناريوهات الافلام السينمائية، ومن ثم قراءتها لمجموعة من ذوي الاعاقة البصرية، لتتحاور معهم بعد كل جلسة اصغاء بشأن ما وصل اليهم من المعنى، وبماذا شعروا، اذ انها من خلال ذلك الحوار تقوم بإعادة صياغة بعض المقاطع، او تعديلها بما ينسجم مع الهدف من كتابة تلك السيناريوهات، الا انها في هذه المهمة، تجد أنها مبعثرة بين أمرين، بين سعيها لإثارة العاطفة عند مستمعيها وبين مهمتها الاساسية وهي ايصال شرح المشاهد السينمائية بشيء كثير من الدقة والوضوح والسلاسة لمستمعيها المكفوفين، وهذا الأمر، يقودها الى الوقوع في المشكلة، تلك المشكلة التي يثيرها أخد فاقدي البصر حديثاً وهو المصور (ناكاموري) الذي غالباً ما يعترض على ما تقوله (ميساكو) ويعدّ أنها إما تطفلت على مخيلتهم، وان هناك فرقاً كبيراً بين الحياة التي يقودها من يستطيعون رؤية الاشياء بأعينهم، وأولئك الذين يرون العالم من خلال صوت الآخرين. هنا، يبدأ الفيلم بمنحنا بعض اسرار الشخصيتين الرئيستين، ميساكو وناكاموري، الكاتبة الشابة، والمصور الذي يقف على حدود الكهولة النهائية، الشابة التي فقدت والدها في وقت مبكر من حياتها، وتركت أمّاً تعاني الآلام في قرية بعيدة، لا يتسنى لها زيارتها الا كل حين وآخر، بسبب تعقد الحياة، وانشغالات العمل، أو بسبب ان ذلك المكان يوقظ في ذاكرتها ذكريات لا تنسى، عن والدها الذي لم يبق منه سوى محفظة جيب تحمل اوراقه وقطعاً نقدية و «كارتات» موبايل او وصولات تبضع، وصورة له هو وابنته قرب شجرة عالية في اعلى قمة جبل في القرية. يرى ناكاموري الحياة من خلال عدسة كاميرته، التي ما زال محتفظاً بها، يحملها معه اينما حل وارتحل، يتحسسها كأنها طفلته الوحيدة، ويوجهها ليلتقط بها ما لا يرى، لكنه يدرك في قرارة نفسه، ان روحه لا ترى غير الجمال، حتى ان محاولات اصدقائه الذين يمتهنون التصوير، في اثنائه عن هذا التعلق تبوء بالفشل، فيلجأ احد اصدقائه الى سرقة الكاميرا منه، سعياً لتخليصه منها، الامر الذي يجعله يتشاجر معه، وعندما يعيدها يقول: (هنا تكمن حياتي، حتى وان لم يعد قادراً على الخفقان، فإنها قلبي) !!. تجد ميساكو في ناكاموري المعادل الموضوعي لأوجاعها التي لا يمكن لها التعبير عنها، كما يفعل هو، فهي ترى فيه القدرة على المواجهة، وتجد فيه ذلك الحنان الذي اختفى من حياتها باختفاء الأب، ناكاموري ذلك المصور الفوتوغرافي الحاذق، لم يفقد بصره فقط، بل فقد حتى حياته التي كانت تنبض بالأمل والحب، في أحد المشاهد، تلتقط ميساكو بطاقة دعوة موجهة لناكاموري ملقاة في سلة القمامة، تخبره أن البطاقة لحجز فندقي، فيقول لها: (هذه البطاقة من زوجتي التي تركتني، دعتني لحضور زفافها من رجل آخر!)، هنا تدرك ميساكو أي ألم يعاني ناكاموري، بعد ان فقد هو أيضاً من يحب!. يتخطى كلاهما البداية الشائكة التي جمعتهما في جلسات الاصغاء لسيناريوهات الافلام، وتنسجم اهدافهما معاً، في رؤية العالم والتعرف عليه والاحساس به، يكملان بعضهما البعض، فهو يرى العالم من خلال ما تراه هي، بطرق أخرى عبر احساسه العاطفي، لا من خلال عينيه فقط، وهو ما يؤكده مشهد القائه للكاميرا التي رافقته طوال حياته بعيداً، عندما يذهبان  لمشاهدة ألق الغروب معاً، بينما تجد نفسها هي من خلاله، قادرة على ان تثق بشكل أكبر بما يراه هو في داخله، لم تعد العيون وحدها جديرة بإيصال الحس، القلب أيضاً يرى ما لا يمكن رؤيته. بقي شيء آخر، هو ذلك المشهد السينمائي من الفيلم الذي ترويه ميساكو لمجموعة فاقدي البصر مشهد العجوزين المربك والمرتبك، فيحاول اختزال الحياة بفكرتين مهمتين جداً، هما الفكرتان اللتان شغلتا الفلاسفة والمفكرين على مر التاريخ، فكرة اللذة والالم، والوجود والعدم، من خلال مشهد العجوزين اللذين يقفان على حافة الموت، ويصارعانه بالحب، والاشتياق، والمودة، على الرغم من اليقين بأن الحياة مثل موجة الشاطئ التي تحطم قصور الرمال، والاجساد الرملية: يقول العجوز في وصف زوجته التي يحبها: حتى اذا تلاشت امامي، فإنني سأراها جميلة، وسأحبها الى الابد!!.