إذا كانت أغلب الفنون الابداعية تبني خصوصياتها في كيفية تناولها للجماليات وما يمكن أن يميز هذه الخصوصيات بناءً أو معماراً كما يقالـ
في لغة النقد الحديثـ كذلك " وهذا مؤكد " ينسحب الأمر على فن القصة القصيرة عموماً والحديثة بشكل خاص ، التي مرت بالكثير من التجديد عبر محاولات كثيرة من التجريب حتى وصلت الى ماوصلت اليه اليوم، تجريب لا يختلف عما قام بها رواد الرسم والنحت والمسرح عبر أطر لا تبدأ بالتجريد والنحت التعبيري فقط، بل تعدتها عبر أجيال من رواد المدارس التكعيبية وتيارات اللاوعي وصولاً الى تعدد هائل في الكتابة واختراع طرق المعالجات الفنية وكذلك العودة الى المدارس الكلاسيكية ولكن بأطر حديثة ، وهذا هو ديدن الفن الحقيقي الراكز الذي يعتمد الاسس كقاعدة عامة لهذا الفن أو ذاك مع اضافات يمكن أن نقول عنها أنها مكتسبة أو متراكمة حتى وصلت اليه الكتابة الفنية الحديثة وهي تعتمد مدارس عديدة في طرائق
الكتابة.
وكلنا نعرف جيداً ان القصة القصيرة تعد من الفنون الصعبة ، ليس لانها تعمل في منطقة هلامية تعد هي الفاصل اللامرئي الذي يفصل النثر الصرف والشعر الصرف ، تلك المنطقة الوسطى التي لايدركها إلا من مارس كتابة هذا الفن بدراية وعين متبصرة ترى ما بين التفاصيل .. لوناً أو موسيقى أو حركة بمنتهى الدقة .
سقت هذه المقدمة وأنا أقرأ المجموعة القصصية للقاص حيدر عبد المحسن في كتابه القصصي الثاني الذي يحمل عنوان " نهار بطيء " الصادر عن دار التكوين ـ 2019ـ سبق للمؤلف أن اصدر مجموعة شعرية واعقبتها مجموعة قصصية حملت عنوان " قطط عارية" وصلت الى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى القصصية .
" نهار بطيء " تضم تسع قصص قصيرة.. واحدى عشرة قصة قصيرة جداً .. تنتهي
بـ ـ ملحق ـ وضع له عنواناً فرعياً أطلق عليهـ وصفات سردية ـ
ربما لأنه طبيب يكتب الوصفات للمرضى ، لهذا ارتأى أن يطلق على ست وثلاثين ومضة سردية توصيف ـ الوصفات ـ
إذن نحن أمام مجموعة قصصية توزعت فيها القصص على شكل فرشة سردية توزعت مابين القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والومضات القصصية .. وسأتناول القصة التي حملت عنوان المجموعة " نهار بطيء " لما تمتلكه من تفاصيل، تجعلني أطلق على القاص حيدر عبد المحسن لقب سيد التفاصيل حيث قدم لنا في هذه القصة انموذجاً رائعاً امتاز بالتكثيف ومهارة سردية في وصف مشهد حياة وحوار في أقل عدد من الكلمات، معتمداً المفارقات التصويرية، حيث تتداخل في القصة الكثير من التضادات التي تبدأ بالتنافر التي ينجح في تطويعها الراوي لتتحول الى اشكال متجانسة، تجانس ايقاع الحياة والحركة..
حيث نرى امرأة نائمة تحت عين منظار رجل ـ سارد ـ واقف امامها ينظر اليها وهو يحدثنا عن بداية نهار في شقة تضمهما معاً، نستطيع أن نسمع هسيساً ناعماً تطلقه ـ وردة أو نبتة وسط غابة بيتية ـ نسير عبر تجانس الغابة البيتية لندخل في لعبة التضادات اللونية التي نراها في عمق الصورة والمشهد المبهر أمامنا بلا
تكلف ـ
التضادات بين اللون الاحمرـ الذي يعد من الالوان الساخنة ـ يقابله لون أزرق مثير وهو يتداخل مع الأحمر ـ الأزرق والأحمر ـ ستائر غرفة النوم بالأزرق يقابلها شرشف الطاولة الأحمر، ونتبع حركة اللون في ثوب المرأة الأحمر حيث يبدأ بالانطفاء حالما يحيطه الضوء المتسرب من الشرفة فندخل في لعبة التجانس اللوني تارة والتضاد اللوني تارة اخرى ، فكما يدخلنا الأبيض في لعبة إغراء الصمت المبهر يبدأ التواصل مرة أخرى مع البطء ( فتحت النوافذ وبدأت في جو الشقة تسري دقائق نهار بطيء ) يخترق هذا البطء ضجيج اخر ـ ضجيج الشارع المزدحم والمدينة الطافية في الحر ـ وتسود هنا اللغة الشعرية وهي تقوم على العلائق المطروحة دلالياً كمفردات على هيئة اسئلة " سرب من الوز ذاك أم غيمة ؟" كل هذا وعين الراوي تأخذنا ببطء في تفاصيل الشقة والشارع وبائع السمك ـ
ليؤكد لها أنها غيمة! أو حينما ندخل في لعبة الفصول "حيث الصيف أمير الفصول . فيه يكون الانسان اقرب الى العالم ، وإلى الحياة " ويدخلان في سمو وقدسية التوحد مع التفاصيل الجميلة في الشقة ، ليسمعا لحناً وتبدأ بالرقص على ايقاع أغنية بربريةـ تواثبت تكورات الجسد في " الثوب الازرق ذي الازهار الخضر والاغنية تدرج هادئة، واندفع نهداك مع الرقص في تحدٍ مهلك" حيث ينهيان يومهما وسط نهار يبسط ظلاله الرمادية في الشرفة وهما يغوصان في اعماق فراش وسط غرفة عبارة عن غابة بيتية وهما
يحلمان.