سعيد عدنان المَهيب

ثقافة 2020/04/15
...

صادق الطريحي
 
   ومن المؤسفِ أنّني لا أمتلكُ هذه الموهبةَ العظيمة، التي يتمتعُ بها الشّيخُ عبد العزيز البشري، أو خيري شلبي في فنّ البورتريه، هذا الجنس الأدبيّ الذي تعرّفتُ إليه متأخرًا، فلقد قرأتُ بعضًا من صفحات "عناقيد النور" في محاولةٍ منّي لرسم بورتريه (سعيد عدنان) لكنّني؛ كما ترونَ الآن، أخفقتُ في ذلك!! فهل استطعتُ أنْ أرسمَ تلك الصّلة الخفيّة بين مهابةِ وجهِ سعيد عدنان، ومهابةِ الفراتِ العظيم حين تشتدّ أمواجُه، فيُخشى منه؛ ومع ذلك يبقى محبوبًا؛ لما " فيه من خير للأرض والنّاس"!! لقد ولدَ سعيد عدنان في قريةٍ تسقى من ماءِ الفرات، ولا شكّ في أنّ بعضًا من روحِ الفراتِ النقيّ قد تسرب فيه. 
   وربما أستطيعُ بسهولةٍ أنْ أقولَ: إنّني أجدُ في وجهِ سعيد عدنان ابتسامةً دائمة، ومع ذلك سأجدُ صعوبةً في تفسير هذه الابتسامةِ، ورسمِها للآخرين، لأنّ الرجلَ يبتسمُ وهو حزين على ما آلَ إليه واقعُ التّعليم الآن!! وأنتَ تراهُ مبتسمًا؛ لكنّه في الحقيقة ساخرًا من أحدٍ ما وصل إلى الأكاديميةِ العراقيّة من غيرِ طريقها القويم، أو صارَ ناقدًا، وهو لا يحسنُ إقامةَ الجملةِ العربية، مشافَهةً أو كتابةً بلا لحن! غيرَ أنّنا متّفقون، نحنُ، أصدقاءه وخصومَه، على أنّ للرجلِ مهابةً مرسومةً على وجهِهِ بعنايةٍ ربّانيّةٍ، وهذا ما تعلمتُه من بورتريهات خيري شلبي، أنْ أبحثَ عن الصّفةِ السّائدة في شخصيةٍ ما؛ فأصوّرها تصويرًا جماليًا إنسانيًا؛ ذلك أنّ هذه الصّفةَ، البؤرةَ، ستكون ميدانًا واسعًا لمشاهدة جوانب الشّخصية الأخرى، وتقييمها. 
فهل ترى وجهَهُ من جديدٍ وأنتَ ترجعُ البصرَ كرّةً أخرى؟ نعم، إنّي أراهُ يشبهُ رغيفًا طيبًا من القمحِ الفراتيّ الأصيل، ومازال الفراتُ يزرعُ القمحَ وإنْ مسّهُ الجفاف!! ولرغيفِ الخبزِ مهابةٌ مقدّسةٌ؛ ولن تجدَ لرغيفِ الخبزِ تبديلا.
وسيلاقى هذا البورتريه عدّةَ صعوباتٍ قبل أنْ يكتملَ، ولعلّ أولى الصّعوباتِ هي في تجنيسِ هذا الفنّ الأدبيّ، فليس هو مقالةً أدبيةً، أو نقديّة، ومع ذلك هو يأخذُ شكلَ المقالةِ، ويظلُ النّقدُ " كامنا في مكان ما فيه" كما يقولُ حاتم حافظ، وهو يقدّمُ مدخلًا لبورتريهاتِ خيري شلبي، وليس هو سيرةً أدبيةً، ومع ذلك، إنّ عليك أنْ تتحدثَ عن سيرةِ صاحبِ البورتريه، وليس هو جنسًا تخييليًا، ومع ذلك، هو يأخذُ من فنّ القصّة، الشّخصيةَ، والمكانَ، والزّمانَ، والوصفَ، وربما الإيهام. 
أمّا الصّعوبةُ الأخرى، فتتجلّى في أنّك سترسم (بورتريه) له شكلُ المقالة، لكاتبٍ مقاليّ، وتودّ أنْ تضمنه بعضَ النّقد، والرّجلُ ناقدٌ، تنظيرًا وتطبيقًا، وتريد أنْ تكتبَ بعضَ سيرته، وهو قد سبقك في ذلك في مقالاته السّيريّة، بل هو كاتبُ بورتريه بارع، في مقالاته تلك، وإنْ جنّسها بجنسِ المقالة.  
   وسأفترضُ الآن، أنّني سأحلّ بعضَ هذه الصّعوبات، إذا قلتُ مثلًا، إنّ فنّ البورتريه جنسٌ متجدد، عصيّ على التقنين، ينفتحُ على الأجناسِ الأدبيةِ الأخرى، استلهامًا، وتضمينًا، وانسجامًا مع شخصيةِ صاحبِ البورتريه وخصائصه الفنية، بل يمكن القولُ، إنّ سرّ تجدّد هذا الجنس، هو هذا التّبادل في المواقع، بين الرسّام والوجه المرسوم، حينما يؤمنُ الكاتبُ أنّ هذه الشّخصيةَ تمثلُ له المثلَ الأعلى. وليس أجملَ من أنْ تواجه نصًا أدبيًا بنصّ أدبيّ من الجنسِ نفسه؛ فيستطيع القارئ أنْ يبصرَ الشّخصيةَ مجسّمةً أمامه، كما هو في جهاز (الستريو سكوب) مثلًا. 
والآن؛ من أين استمدّ سعيد عدنان مهابته هذه؟ ليس من منصبه الرّسميّ طبعًا، فالرّجلُ لم يسعَ إلى المنصب ذات يوم، ولن يمنحُكَ المنصبُ مهابةً أبدًا، فهل صارَ مهيبًا بفعل اللقبِ العلميّ، والدّرجة الأكاديمية التي يحملها؟ طبعًا، لا، فما أكثرَ من يحملون هذا اللقبَ، وتلك الدّرجة، أما هو فلم يكتبها على أغلفةِ كتبه قبل اسمه قطّ، وسيكتفي بـ (سعيد عدنان) كما اكتفى هذا البورتريه باسمه فقط.
ربما استمدّ مهابته هذه من أسرته، فهو سليلُ أسرةٍ علويةٍ طيبةٍ من آلِ (المحنّا) وما زالَ بابُ بيتِ جدّه في ناحية القادسيّة تحنّى من قبل الأهالي هناك؟ وأنتَ تدركُ أنّ الإسمَ، والوسمَ، والسّيمياءَ علاماتٌ تؤدّي وظيفةً إبلاغيّةً تحدثُ أثرًا عند المتلقي ... لكنّك؛ إنْ جلست إليه، لن يحدّثك عن أسرته، وسيحاول جاهدًا أنْ يجيبك بأقلّ الكلماتِ عددًا إنْ سألته عن ذلك؛ لأنّه لا يستطيعُ أنْ يردّ سائلًا في أيِّ حالٍ من الأحوال.
وهل تستطيعُ أنْ تنكرَ أنّ سعيد عدنان قد استمدّ مهابته من طريقتهِ في التّدريس، ومن غزارةِ علمِه، ورصانةِ بحوثه وجدّتها؛ لأنّنا سمعنا الطّلبة يلهجونَ بشكره، على ما أسداه لهم من نصيحةٍ علميّة!!.
وهل أستطيعُ أنْ أنكرَ المعلّمَ، وإنْ تغيّرت الأحوالُ ثلاثًا من المرّات!! وما زال المعلّمُ يُصلبُ، ولكنْ؛ ليس على طريقةِ صلب المسيح، كما تحدّثنا ثورةُ الفكر؛ لأنّها صارت طريقةً قديمةً معروفةً للجميع، فقد ابتكرَ أصحابُ السّياسةِ والمهرجون طرائقَ أخرى، أشدّ فتكًا، وأخفى أمرًا!!!
آمنَ سعيد عدنان بعددٍ من الأشخاص، تستطيعُ أنْ تراهم بوضوحٍ تام في (علي جواد الطاهر) و (أدب المقالة وأدباؤها) و (في أفق الأدب) و (مقالات في الأدب والثقافة) ورسمَهم كما هم، لا مغاليًا في نقائهم، ولا متعصّبًا على من رآه غيرَ ذلك! وهذا الإيمانُ بعضٌ من مهابتِه.