ابراهيم سبتي
في كل رواية، نكتشف شيئا جديدا، فالأشياء موجودة ولكنها غير منظورة احيانا، فتدفع القراءة المعمقة الى الغور في أعماق النص والتنقيب لاكتشاف المكنون السردي والفكري والتعريفي احيانا، في روايته الاخيرة "عن الأولين والآخرين "
يكتب احمد خلف بلغة مكتنزة مرصوصة بنظم التراتبية التي تعطي النص قوته وتجيز له التحولات الاحترافية الصعبة التي نجحت في الانتقالات بين الزمن بصفته " متحولا " متأثرا بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، وتضمن تنوع الامكنة، التي احتاجها النص كمسرح متحرك للأحداث. في رواية " عن الأولين والآخرين " تحولات مهمة في ثلاثة أزمان: الأول زمن السلطة الغاشمة والقامعة للانسان وحرياته، والثاني زمن الاحتلال الاميركي ومازرعه من بغض وكراهية وتفرقة، والثالث خليط بين حالة المجتمع بعد سقوط النظام والاحتلال الاميركي، وبين الوضع بعد الاحتلال، انها صراعات اثبات ورسوخ المواقف مع ان الراوي ينحاز دائما الى الشك في الحقائق على الارض والاحوال، التي سادت بعد تلك العواصف والهزات، ان الرواية، هي تداخل صعب ومدروس بعناية لوضع معقد ومتلاطم وربما ميؤوس منه كما وصفت الرواية. " التغيير، التغيير، التغيير، الجميع يلهج بالتغيير الدائم المستمر حتى عودة الشيخ الى صباه، افتح عيني على الجهات الاربع، فلا ارى سوى التغييرات الهائلة التي تشي باقتلاع الحصون القديمة والرؤوس الجامدة والعقول الخاملة، رياح بدأت تهب من اقصى المعمورة على ديارنا المتداعية التي زعزعتها الحروب وانهكتها معارك بلا معنى " ص 151 .
فنكون امام تحد جديد يظهره السرد في النص المتماسك، وهو افتضاح نوايا البعض وهم ينهبون ما استطاعوا ويعبثون بالمقدرات، إنها المحنة التي لخصتها رواية بحجم " الأولين والآخرين " التي كانت دقيقة في رسم لوحة بانورامية للاحداث التي عصفت بالبلاد، ثمة تحولات جريئة في النص لم اعهدها عند كتّاب آخرين، حين يتناولون الحالة السياسية وكأنهم يعملون ويمتهنون احابيلها، الا ان احمد خلف وعلى لسان الراوي، استطاع ان يطرح آراءه وقناعاته وبشكل اعطى السرد دفعة قوية وشهقة من اللذة التي يشعر بها كل من يتلوى الما على بلده، في الرواية عدة شخصيات تتحرك بوتيرة مسيطر عليها لأنها تتناوب على التواجد في جميع الأزمنة، ما يتطلب قدرة في مسك الخيوط المحركة للافعال والاحداث التي تمّر بها :
" حتى تمثال السعدون تعرض الى السرقة، لقد سلبوه في ليلة مظلمة، تصور اغراهم النحاس الذي صنع منه التمثال ... " ص 121 .
أن يكون الراوي مثقفا او يتمتع بقدر كبير من الموهبة في الكتابة والتخيل، فهذا معناه انه أمين على نقل الاحداث بدقة وبعين بصيرة واعية وبقلب محب، انه الصراع الازلي بين المثقف وبين الجهلة الذين لا يعرفون سوى المصالح والغرائز ولا يهمهم أي شيء اخر.
لقد رصد الراوي المثقف، ازمة الوجود في لجة الفوضى والضياع وهو يتحدى ما يجري ليطرح افكاره التي يحملها كل من يتوق للتغيير الفاعل الخلاق وليس للصوصية والسرقة وملاحقة الصحفيين وخنق حرياتهم، إنها رواية، كمال مزهر وجلال حداد، ووداد وهند وسليم وعبد الواحد والحيدر خانه وفندق الحاج صباح العماري وباب المعظم والشوارع المزدانة بحبهم، انها رواية بغداد التي ظلت واقفة رغم عتاة الاجرام والخراب ورغم الانكسارات المتلاحقة، لقد صنع الروائي احمد خلف رواية المكابدات التي جثمت على صدور كمال وجلال وهما يحلمان بالخلاص والدخول في عوالم الحلم والتخيل.. إنها رواية البؤس والانهزامية، التي ظلت تراود هند ووداد لكي يصنعن احلامهن المتواضعة للخلاص،. هي رواية المواجهة والانتصار على الخراب الذي عشعش بلا أمل، هي رواية الشعر وقصائده المؤثرة " كمال مزهر "، هي صورة الجرأة والافكار البديلة " الراوي وجميل حداد "، الا ان الراوي لم يغلق أبواب الامل، فكان يحلم هو الاخر ولكنه اكثر وعيا ولديه افكاره التي تؤهله، " عن الأولين والآخرين " هموم البلاد وهي تئن تحت جراحاتها، فيكون ابطالها الذين يهتفون بحبها هم من يزرعون امل النجاة. اتجه السرد الى انساق متعددة وهو يدخل الى الحدث تلو الآخر بانتقالات صعبة، فتكون الانساق مرتبة حسب الحدث والشخوص، أجد ان هذه الانساق تتطور بفعل اللغة المتصاعدة وحركة الحدث حين يكون امام انغلاق في الرؤية، كما يتصور المتلقي، الا ان السرد ينفتح حال دخول اللغة حيز الفعل الدرامي للاحداث، فيتضح الهدف ويبلغ القصد مداه، تأتي اهمية هذه الرواية بفعلها التكويني للحدث الرئيس، الذي غيّر حال البلاد وصار كل شيء خرابا الامر الذي لم يترك مجالا للعودة الى المآل الماضي، لأنه كان رمزا للقمع وحنق الحريات، ثم يتطور الحال الى احتلال بغيض فينتج عنه فوضى عارمة كادت تطيح بكل
شيء.
انها تاريخ محكي بسرد لافت وخبرة في فن الكتابة اوصل السرد الى مستويات عالية من الفنيّة والقدرة على تكوين بصري مؤثر عكسه النص المتفاعل والمحبوك بعناية .
" ومن سينقذ الانسان؟
ـ الدين والايمان به يمكن ان ينقذا الانسان؟
ـ والعلم الا يكفي العلم مقدرة على خلق حياة طيبة له ؟" ص 37 .
تسحبنا الرواية الى عوالم واقعية امتزجت بالمهارة، فنقلت الأحداث بصورتها المتجانسة غير المكررة واشتغل القاص والروائي احمد خلف على خلق بيئات مؤثرة في صلب الاحداث، فمنحها بعدا فنيا وطراوة لغوية أمطرت السرد بوابل من المهارات ورشقات من الامتاع.. "صدرت الرواية التي كتبت بين عامي 2011 و2013عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2018 .