{منشغلة حدّ الأمهات} والاشتغال على نظام الكتلة

ثقافة 2020/04/16
...

 
علوان السلمان
 
 
التجربة الشعرية هي ( عملية الحياة والحركة العضوية..) كما يقول هربرت ريد.. والتي يخوض غمارها المنتج (الشاعر) لتحقيق عوالمه النصية وخلق رؤيته الابداعية التي هي القدرة على التعبير والابتكار والتصوير الذي يؤسس لفضاءات عوالمه الحالمة.. المستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) ليفتح باب التأمل والتحليل 
والتأويل..
كونه وجوداً مقترناً بالفكر المكتنز بالدلالات الذهنية المتصارعة والواقع من اجل خلق عوالم تتناغم فيها الرؤى وتتفاعل مع انساق مكتظة بالحيوية والدينامية. والشاعرة نجاة عبدالله في نصها الشعري (منشغلة حد الامهات) تعتمد فيه نظام الكتلة المقطعي الذي يشكل احد اهم ركائز قصيدة النثر.. وقد اسهمت دار قناديل في نشره وانتشاره/2018.. كونها تتخطى فيه الحسيات الى افق الرؤيا بمخاطبة الوجود والاشياء بلغة الفكر المتشظي الذي فقد جزءاً من وجوده الحياتي  الذي يكشف عنه النص الموازي الاهدائي(اليها بلا جدران..) والذي يتكرر في مدياته موزعاً ما بين (الامهات) و(امي)..
قلت للنادل:
 
اريد قهوة بلا رصاص
وبلاداً بلا طغاة
جاءني بالرصاص ملثماً بالبلاد
وترك القهوة الرقيقة
تثمل وحدها برائحة الطغاة
قلت لامي:
اريد رأسي
مات من الضحك ابي
وبانت تجاعيد المدفأة
قلت لربي: اريد المكوث طويلاً
كأن الصلاة فاكهتي المفضلة
أمطرت السجادة وبانت عورتها. ص11ـ ص12
 
فالنص الشعري بصفته (لغة الخيال الذي يبعث الروح في العدم) .. اشتغال لغوي تتساوق في جمله العناصر المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد..من اجل تشكيل واقع وتأسيس ذاكرة..من خلال تداخل الالفاظ والتراكيب وتفســير بعضها البعض.. لانــها تقــوم على دائرة نصية مغلقة تعبر عن فكرة مركزية تدور حولها الاحداث(فقد الام).. مع توظيف سايكولوجية التواصل الشعري لتنتج صورها التي تمزج الحلمية بالخيالية في سياق حسي مقترن بالحياة بكل موجوداتها عبر ذهنية متحفزة فتقدم رؤية شعرية تلخص الواقع واشياءه ببوح وجداني ونزوع انساني متمثل في السلوك..
 
ما جدوى ان نتكلم
قرب النهر عن رحيل ابليس الى الجنة؟
وموسيقى بتهوفن
الاصدقاء الخلب
وضفائر امي الحمراء
ما جدوى ان اقول لك: انك احمق
وتقول لي:اني قصيرة وكئيبة
سنفيق جميعاً
انت الاحمق
وانا القصيرة الكئيبة
على نباح الحرب كل صباح / ص49 ـ ص50
 
فالشاعرة تتجلى صورها في كونها قيمة اجتماعية تكشف عن عاطفة انسانية تختلج في نفسها حتى انها توظف الجسد للتعبير عن انفعالاتها ومواقفها.. كونها تجيد العزف على اوتاره روحياً واشارياً لتخلق ايقاعاً يستفز الذاكرة الذاتية (الانا) والمستهلك الآخر(الموضوع) الذي يستنطق عوالم النص ويكشف عن ابعاده اجتماعياً ونفسياً.. وعوالمه المتصارعة التي شكلت ابتداء من الاستهلال ـ زخماً من الالفاظ المتناقضة في دلالتها ومعانيها.. والمتناسقة في نسيجها ووظيفتها.. فتشكل نصاً  يقوم على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص الى مجموعات دلالية متكافئة وهي تسبح في بنيتين اساسيتين: اولهما البنية اللغوية وثانيهما البنية المعرفية.. فضلاً عن تجلي ابداع الشاعرة في توظيف التراث الشعبي شعرياً (يمة الولد يا محبس يميني.. ويالذة الدنية بعيني).. من اجل خلق انفعال جمالي يعمل على تحريك الخزانة الفكرية للمتلقي وتوليد الافكار والدلالات.. اضافة الى اعتماد الشاعرة تقنية السرد لبناء نص شعري مؤثث بالتداعيات التي يضخها زمن خارج الذاكرة..والمتميز بتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي يكشف عنه (نباح الحرب كل صباح..)..فتخوض   مغامرة شعرية تضمن نتائجها المؤثرة باتقانها لتكوينها الداخلي والخارجي مع قدرة في توظيف الطاقة اللغوية فتكشف عن قدرتها في الترميز وشحن الفاظها بدلالات غير مألوفة من اجل التحليق في افق الصورة الشعرية عبر بنية نصية تعتمد التكثيف والايحاء.. 
 
تضحكين مني
من بكائي عليك
وعباءتي الملطخة بالطين
من دعائي على المقابر بالحياة
من عناقي لك
من الطواف بك
من الجنة على ثيابك
من قصة مولدي في عيد الجيش
أهكذا هن الامهات
هكذا علمك الموت يا أمي  
 
فالنص على المستوى التخييلي يتجلى بتماهي المنتجة(الشاعرة) واخلاصها لمبتغاها بتدفق وجداني منبعث من دائرة الوعي الشعري المؤطر بعوالمها الصورية ودلالاتها الموحية بتقنيات فنية، كان في مقدمتها التكرار، الاسلوب التوكيدي والنمط الصوتي والدلالة النفسية التي من خلالها تعلن المنتجة(الشاعرة) عن مشاعرها المكبوتة وهناك صراع المتضادات(ضحك/بكاء).. فضلاً عن التنقيط(النص الصامت) والتشكيل الذي يستدعي المستهلك لملء فراغات النص..فضلاً عن الرمز الاستعاري الذي هو اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك الشعري.. اذ فيه تسمو التجربة الشعرية فتتحول الصورة الى رؤيا تستمد نبضها الدافق من الذاكرة الذاتية والموضوعية بتوليفة تجمع ما بين الواقعي 
والتخيلي..
 
أنا ابنتك ايها الليل
أقترف الوطن برصاصات باردة
ويذهب بي عناقك الى المنفى
طاب صراطك أيتها الضحكات 
على وجهي
    
***
أرث ما مضى من الحروب
وأحيل الرصاص الى المنصة
بيان صادر عن الامهات
(يمة الولد يا محبس يميني
ويالذة الدنية بعيني) / ص96
 
فالشاعرة تعتمد الايجاز والتكثيف  مع اقتصاد لغوي في ايصال فكرتها الشعــرية..فضــلاً عن توظيــفها الفعــل الدرامي الذي يأخــذ ابعاداً (نفسية/اجتماعية..) تؤطر النص المزاوج بين لغة الجسد والروح كي يمنح متلقيه نشوة الاداء الشعري الذي يمسك بانزياحات المعاني التي ينتجها وهو يخوض في غمار التجربة التي تسبح ما بين عوالم الذات والموضوع..
الباكية تسير ومن خلفها الامهات
لا بأس ليحيا الجنون
أموت فيها حباً
وتحيا في القبور  /ص125
فالنص يتسم بالوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالانسان.. ويعني الوجود.