بغداد مدينة يحتضنها السكون

العراق 2020/04/16
...

 ترجمة: انيس الصفار  
إنها ساعة الغسق.. أحب الساعات الى قلبي عدا ساعة الفجر. المؤذن يصدح بصوته منادياً لصلاة المغرب. لم تبق سوى صلاة واحدة أخرى، ثمة أذان آخر سيكون موعده الساعة 8,30 وهذان الأذانان هما أجمل ما في اليوم في نظري. درجة الحرارة لا تهمني، وسواء كان الموسم حراً قائظاً أم برداً قارساً فإنني أفتح نافذتي وأروح أصغي.
 

أما اليوم فإنَّ المساجد خاوية، والمراجع الدينية وجهت بإغلاق حتى المراقد المقدسة لمنع الناس من التحشد في جماعات كبيرة. حتى صلاة يوم الجمعة، التي تعدُّ أهم صلوات الأسبوع حين تغص أكبر مساجد المدينة بألوف المصلين الذين عادة ما ينسابون منها الى الشوارع، حتى هذه صارت تؤدى في البيوت. كانت تلك خطوة صعبة اضطر رجال الدين لاتخاذها، فالمساجد كانت تبقي أبوابها مفتوحة حتى إبان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة.
كثيراً ما كنت أخرج في هذه الساعة للتمشي بمحاذاة دجلة، ولكنني اليوم لا أكاد أرى أحداً. تلك الأسر التي اعتادت أنْ تفترش بطانياتها على شريط المتنزه الموازي للنهر لم تعد تخرج للترويح عن أنفسها، والفتية المتجولون الذين يبيعون أنواع البسكويت وشراب البرتقال بالصودا لاذوا هم ايضاً ببيوتهم. لذا كان الصمت خلال نزهتي هذه في ما تبقى من ضوء الغروب بمثابة فاصل حزين، وإن يكن مغموراً بسلام وديع. عما قريب سوف يشتد الحرّ فلا يعود بالوسع التمشي حتى ليلاً، أما الآن فإنَّ الأماسي لا تزال ناعمة طرية.
يقطن بغداد نحو سبعة ملايين إنسان، وهي في أحوالها المعتادة مدينة تضج بمزيج متضارب من الاصوات. بناها التحتية متعبة والنفايات متراكمة في أكوام، ولكنها تبقى مدينة حية متحدية. عندما فرض حظر التجوال كانت شوارع بغداد زحاماً مشتبكاً من سيارات الدفع الرباعي المدرعة وسيارات الأجرة الإيرانية زهيدة الثمن، وهنا وهناك قد تلوح احياناً عربة يجرها حصان. كثير من الناس يسكنون في بيوت صغيرة أو في شقق، لهذا السبب تأخذ معظم نشاطات الحياة مجراها في الخارج. كانت شوارع بغداد تزدحم بالمتسوقين عند الغسق، وبالصغار يركلون كراتهم يلعبون كرة القدم بينما الرجال يلعبون الدومينو على مناضد من الورق المقوى.. كل هذا لم يعد له وجود.
حتى في أسوأ أيام حرب 2003، عندما كان الأميركيون يقصفون بغداد، لم يكن الناس يطيقون البقاء داخل منازلهم، لكن هذا الفيروس.. هذا العدو الخفي الذي لا تراه العيون.. نال من أعصاب الناس على نحوٍ مختلف. إنهم اليوم يلزمون بيوتهم لأنهم خائفون، ورغم أنَّ عدد الحالات المثبتة على نطاق البلد ككل واطئ نسبياً، يقارب 1400 حالة، يبقى هناك خوفٌ من وجود مزيدٍ من المصابين غير المشخصين بسبب الوصمة التي صارت ملازمة للمرض والحجر الصحي.
جميع المتظاهرين تقريباً، أولئك الذين احتشدوا للاحتجاج ضد الفساد والنفوذ الأجنبي، قد انسحبوا من ساحة التحرير، ولو ان الكثير من خيامهم بقيت ممزقة مهلهلة بفعل الرياح والأمطار. هناك بعض باعة الطعام الذين لا يزالون يقدمون لمن تبقى من المحتجين طاسات صغيرة من الحمص الساخن "اللبلبي"، ولكن الموسيقى والفن فارقا المكان منذ وقت طويل ومعهما تبدد ذلك الإحساس بقرب بلوغ الهدف السياسي. لكأنَّ شخصاً قد أخمد 
الأضواء كلها.
خرجت لشراء بعض الطعام فشعرت كم أنا منعمة. كثير من العراقيين قد نفد ما في أيديهم من مال لأنهم لا يمكنهم الخروج للعمل تحت ظروف الإغلاق، لذا ترى الأسواق امتلأت بنساء يلتقطن السلعة من مكانها ثم يعدنها ثانية بعد أنْ يرين السعر. لقد كان إحساسي بالملل من جبنة حلوم نوعاً من البطر. في محال البقالة لا تزال هناك فاكهة من عائلة الحمضيات تجمع بين الحلاوة والحموضة اللاذعة تسمى "سندي" (وهو صنف وسط بين الغريبفروت والبرتقال الهندي إلا أنه أنشف ملمساً بحيث يمكنك التقاط شرائح مقشرة منه من دون أنْ يبقى دبقها على أصابعك). عما قريب سينقضي موسم هذه الفاكهة ايضاً.
لأجل إبقاء الناس قرب بيوتهم فرض حظر على حركة السيارات. ثمة استثناءات منحت لبعض الموظفين الذين "لا يمكن الاستغناء عنهم" وللصحفيين، هؤلاء زودوا ببطاقات تعريف خاصة يمكن لرجال الشرطة تدقيقها. منع التجوال يراعى بحرص أشد في المناطق الميسورة من المدينة، أما في الأحياء الأكثر فقراً فلا تزال التكتك تمرق مسرعة هنا وهناك وباعة الأرصفة يبسطون بضاعتهم حتى إذا لاحت دورية الشرطة عند المنعطف سارعوا الى جمعها على عجل. عدا ذلك فإنَّ أغلب مناطق بغداد قد تعطلت فيها حركة الحياة.
ذات يوم غير بعيد كنت في مدينة الصدر، ذلك الحي الفقير المترامي في شرق بغداد. توقفت أمام امرأة متينة البنيان كانت تقف بباب منزلها وقد تحلق من حولها أحفادها وحييتها قائلة: "شلونج؟"
ردت علي المرأة: "إمامنا الحسين حامينا". في إشارة الى الشهيد الجليل حفيد النبي محمد، ثم مضت مستطردة: "لذا لا يمكن أنْ أمرض أبداً". بعد ذلك سحبت وشاحاً أخضر اللون كانت تطوق به عنقها قالت إنها أتت به من مدينة كربلاء المقدسة وقدمته إلي. شعرت بالخوف وتراجعت الى الوراء وقد بسطت ذراعي أمامي مع إشارة باليد لا يجهلها أحد في العالم كله معناها "توقفي". نظرت المرأة إليَّ متمعنة غير مصدّقة وكأنها تقول: "إنك حقاً تضيعين من يدك شيئاً عزيزاً".
حمدت ربي لأنني نجوت من المرض ولأنني لست مضطرة مثل كثيرٍ من العراقيين للقلق والتساؤل كيف سيمكنني إطعام أسرتي. شعرت بالامتنان لذلك الصمت، ولتلك الأصوات القليلة التي لم تعد تناضل لكي تسمع وسط الهدير والحركة.. تغريدة طائر.. صوت المؤذن ينادي للصلاة.. في تلك الأيام العادية كان هذا النداء يجتذب الرجال الى المساجد ويوعز للعاملين أينما كانوا أنْ يبسطوا سجاداتهم للصلاة، أما اليوم فإنَّ صداه يتردد في الشوارع الخالية مختتماً 
بهذه العبارة: "صلِّ في بيتك".