اسطورة ألاب

ثقافة 2020/04/17
...

يوسف محسن
 
 
التفت (عطا عبد الوهاب) لي وقال: انك تروي ذكريات غزيرة عن والدك 
(كامل الجادرجي) ومواقفه، فلماذا لا تشرع في تنظيمها وتدوينها؟ يقول رفعة الجادرجي: لم أكن أفكر قط في السابق بتدوين تلك الذكريات حتى تبلور بيني وبين عطا نوع من الميثاق الفكري والإنتاجي، وهكذا بدأ عملنا فكان الحصيلة الأولية ( صورة أب )، في هذه المادة نجري دمجا بونوراميا بين الحياة العامة  والحياة اليومية الخاصة بالسياسي العراقي (كامل الجادرجي) من خلال ذاكرة رفعة الجادرجي والمصادر التاريخية، 
 
رفعة الجادرجي
ولد رفعة كامل الجادرجي في بغداد العام 1926، درس العمارة في لندن العام 1946 - 1952، مارس مهنة العمارة في العراق والدول العربية بين العامين 1952- 1978، شغل مناصب مهنية وإدارية في الحكومات العراقية وفي فترات متعددة، منها رئيس هندسة في مديرية الأوقاف العامة 1954 - 1956، مدير عام الهيئة الفنية الخامسة 
(الإسكان) وزارة الأعمار 1958 - 1959، رئيس هيئة التخطيط في  وزارة الإسكان 1962 – 1963، مستشار أمانة العاصمة 1980 – 1982، التحق بجامعة هارفارد العام 1982 لإجراء البحوث في التنظير المعماري، يشكل التصوير الفوتوغرافي هواية وممارسة وقد اجري مسحا فوتوغرافيا للعمارة والتطور الاجتماعي في العراق، فاصدر العديد من الدراسات والأبحاث في الفن المعماري، منها شارع طه وهامرسمث: البحث عن جدلية العمارة 1985، في هذا الكتاب يروي الجادرجي عن تجربته في شارع طه وهو الشارع الذي كان يسكن فيه في مدينة بغداد، وكذلك تحدث عن المدرسة، التي انتقل إليها للدراسة وهي مدرسة هامرسمث، حيث سرد تجاربه وأفكاره خلال تلك الفترة، مفاهيم ومؤثرات : نحو عمارة دولية متقاطرة 1986، عمارة رفعة الجادرجي: مجموعة 12 لوحة أجنبية 1984، قام  بجمع تراث والده الفكري في كتاب كامل الجادرجي في حق ممارسة السياسة والديمقراطية، افتتاحيات جريدة الأهالي 1944 – 1954. كتاب (صورة أب الحياة اليومية في دار السياسي كامل الجادرجي) كتاب معني بتدوين اليومي البسيط والذي يعد الجزء الحيوي من السلوك الاجتماعي  والسياسي للشخصية العامة. 
 
في الحيدرخانه
يقول رفعة الجادرجي: إن ما اذكره في  طفولتي عن والدي في سن الخامسة والسادسة ذكرى معينة متميزة واضحة في ذهني جدا وبارزة تماما في بيتنا في الحيدرخانه وفي موسم الصيف عند الغروب رأيت أشياء متعددة لوالدي قرب سريره ومن بينها شيء غريب استقر في ذاكرتي طاولة مستطيلة الشكل وعليها ورق ابيض ومثلثات هندسية مثلث واحد ربما أو أكثر وأقلام ملونة بقي في ذهني منها القلم الأحمر وعلى الورق منها رسوم ومخططات ذات خطوط وبالألوان لم يكن والدي موجوداً حين رأيت هذا ولكنني سمعت، إن الرسوم لها علاقة بأرض زراعية اشتريت في الصويرة  ويجري تقسيمها وتنظيمها. 
 
أمينة وباسل
في ذلك العام كنا قد أصبحنا ثلاثة إخوة: إنا وأمينة وباسل وكانت في بيت باب الشيخ شرفة كبيرة في الطابق الثاني، وقد بدأت منذ تلك السنة إن والدي يبدو لي شخصا متميزاً عن بقية رجال الأسرة من أقاربنا الكثيرين، عندما كنت ازور بيوت الأقارب فكانوا ما يفعلونه هو تدليلي بالطرق المألوفة وملاطفتي بتبسط وهو ما لم يكن يفعله أبي معي وكان والدي يختلف عن الرجال الآخرين من أقاربنا، كنت ألاحظ
دائما إن أبي كان يجلس وراء طاولته الخشبية في غرفة المكتبة يقرأ هناك محاط برفوف الكتب، بل كانت هذه هي سهراته الوحيدة التي لا نعرف غيرها في الدار. 
 
محلة البقجه
في العام 1934 استأجرنا داراً في محلة الميدان والتي  تسمى أيضا محلة البقجه وتقع في الطريق الذي يتفرع عن شارع الرشيد ويكون على يمين القادم من باب المعظم وذلك بعد تجاوز طوب أبو خزامة ببضع خطوات وهو الطريق المؤدي إلى شريعة النهر والتي تفصل بين بنايتين مجلس الأمة ونادي الضباط ومن ابرز معالم الموقع خزان الماء الكبير المجاور للدار، هذه الدار الكبيرة تتألف من حوشين الأول هو البيت الكامل وبابه على الطريق ويتألف هذا من طابقين مع سرداب ارضي كبير في الطابق الأرضي باحة كبيرة يتوسطها حوض ماء مع جنينة صغيرة فيها أشجار الحمضيات .
 
مولود جديد
كان ميلاد شقيقي ( نصير ) وهو رابع المولودين في العام 1933 وقد بقى هذا المولود الجديد من دون أن يسمى رسميا لمدة ستة أشهر، فاكتسب لهذا السبب عطف أهل الدار وعطف الأقرباء من زوارنا كذلك فكانت تطلق عليه مختلف النعوت للتحبيب فكان هناك من يسميه ( مزمور ) إما الاسم الدارج له بالنسبة للوالدة فهو ( بش بش ) حتى جاء يوم أعلن فيه والدي أنه قد سمى الطفل نصير.
 
قبول النسوان
من ذكرياتي في تلك الفترة: ( قبول النسوان ) في بيت الميدان والقبول هو اليوم المخصص لاستقبال الصديقات من النساء من قبل ربة البيت وكان شيئاً شائعا في المجتمع العراقي في تلك الأيام وان قبول والدتي كان يوم الأربعاء ولم يتفق عليه بين النسوة إلا بعد اخذ ورد وذلك لضرورة التوفيق والتنسيق بين البيوت الأخرى، كان والدي لا يتدخل في شأن كهذا وكان في كل أربعاء يوم القبول الحاشد يحاول أن يغيب عن الدار ليفسح المجال للنساء أو يعتكف في غرفة الاستقبال الكبيرة مع احد الأصدقاء المقربين مثل يوسف إبراهيم ود.ناجي الأصيل .
 
جماعة الأهالي
في العام 1933 ترك كامل الجادرجي حزب الاخاء الوطني لاختلافه مع معظم أعضاء الحزب وقادته في الميول والآراء وانضم على الأثر إلى جماعة (الأهالي) انضماماً فعلياً، بعد إن كان متصلاً بتلك الجماعة منذ بداية صدور جريدة ( الأهالي ) ثم انضم بعد ذلك مع جماعة الأهالي إلى تشكيلات سرية اشترك فيها الزعيم الوطني المعروف جعفر أبو التمن وشخصيات سياسية أخرى مثل، حكمت سليمان، محمد حديد، عبد الفتاح إبراهيم، وقد كان لتلك التشكيلات تنظيم عسكري كان بكر صدقي من ابرز أعضائه، وهو الذي قاد انقلاب العام 1936 وقد اشترك كامل الجادرجي في وزارة الانقلاب، وكان من ابرز 
أعضائها.
 
الشيخ محمود
يبين رفعة الجادرجي تفاصيل عن  الحياة اليومية  لوالده فقد زاره الشيخ محمود والد بابان علي وهو من شيوخ الأكراد الذي سبق إن ثار على الحكومة وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في الجنوب ثم في بغداد كان هذا الشيخ قد انتقل إلى شارع طه فأخذ هو ووالدي يتزاوران وذات يوم شاهدت الشيخ محمود يتقدم إلى دارنا وهو يسير في ممر الحديقة في طريقه إلى جناح أبي فإذا بالوالد يخرج من غرفته لاستقباله لفت الى انتباهي ان ذلك غير معتاد من قبله، لكن الذي أثار انتباهي هو إن والدي والشيخ محمود اخذ كل منهما الأخر بالأحضان وتبادلا القبلات وذلك إن والدي لا يقبل أحدا.  
 
الوطني الديمقراطي
يوضح رفعة الجادرجي بعد إعلان ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفيتي أخذ وضع غرفة استقبال الوالد الكبيرة يتطور حيث صرت أشاهد وجوها جديدة لم أرها من قبل وأصبحت الغرفة محلا للاجتماعات الحزبية، يتذكر رفعة أن والده عرفه على شخص قال إن أسمه عبد الله مسعود وبعد التعارف أخذ الرجل يسألني عن الحرب وحدثني إن الحرب كانت في السابق بين دول استعمارية أما الآن فان الحرب بين الجبهة التقدمية والجبهة الفاشية العالمية، تبين في ما بعد إن عبد الله مسعود عضو مؤسس  في الحزب الشيوعي العراقي السري.