ديون ضائعة!!

الصفحة الاخيرة 2020/04/17
...

حسن العاني 
 

قبل 5 عقود تقريباً، كنتُ طالباً جامعياً في المساء، ادرسُ "اللغة العربية" وفي الصباح معلماً لمادة "اللغة الانكليزية" ، وراتبي (50) ديناراً ، يتوزع توزيعاً اشتراكياً على الاسرة واجور الكلية ومصروفي الخاص ، وامي – رحمها الله- التي تقدس تراث العراق وتقاليده ، ما مرّ يوم الا وطلبتْ مني ان اتزوج كي تقرّ عينها، وبفضل الحاحها تحولتُ الى (زوج) لا يدري كيف يتدبر اموره .. المهم قرتْ عينها وهجر النوم عيني!!
بعد سنتين على زواجي في عام 1970 ، حيث انهيتُ دراستي الجامعية، شاءت المصادفة الحسنة ان احصل على عمل ليلي في احد المطبوعات بصفة (مصحح)، وبمكافأة شهرية مقطوعة ، قدرها (30) ديناراً ، وقد نقلتني هذه التغيرات المالية الحادة من طبقة البرجوازية (الرثة) الى مصاف الارستقراطية الوطنية، وفي ذلك العام نفسه، تعرفتُ لأول مرة على الشاعر الفطري الراحل عبد القادر العزاوي، الذي كان يعمل مصححاً معي في المطبوع ذاته..
العزاوي شخصية لا تخلو من غرائب، فهو شاب لم يكمل مرحلة الدراسة الابتدائية ، وحياته العامة عامرة بالفوضى والعبث، وبخلاف ذلك فهو انسان وديع مسالم، وشاعر محدود الموهبة ، شديد الميل الى المرح والمقالب الظريفة، مع صوت غنائي عذب كان يجمعنا حوله، وهو يقلد فريد الاطرش!!
توطدتْ علاقتي معه في زمن قياسي، ولعلني احببتُ فيه تلك البراءة الطفولية، والفوضى غير المؤذية .. كان يعرضُ عليّ ايةَ قصيدة ينجزها ، ولا أتحرج من ابداء ملاحظاتي وان كانت قاسية، فالرجل لا يغضب ولا ينزعج، ويحاول ان يتعلم ، وكنتُ استغرب حقاً ، لأنه حين يكتب الشعر يتحلى بسلامة لغوية عالية ، ولكنه في عمله مصححاً يضطهد اللغة والنحو اضطهاداً لا نظير له، حيث يتعطل عنده كل شيء ، بما في ذلك حروف الجر!!
من بين اشياء كثيرة علقتْ في ذاكرتي ، انه سألني ذات مرة ان اقرضه (3) دنانير الى يوم الراتب، فلم اتردد ، وعندما قبض اجوره في نهاية الشهر، تجاهل (الدين) الذي في ذمته، فبحثت له مع نفسي عن تبرير ، وكنتُ اتحرج من تذكيره او مطالبته، وما كادت تمضي عشرة ايام في الشهر الجديد، حتى سألني اقراضه مبلغ (4) دنانير الى يوم الراتب ، فلبيتُ طلبه ، ولم اذكر (الدين) القديم حتى بالمزاح او التلميح، وهكذا تراكم عليه مبلغ يفوق ارستقراطيتي الوطنية، ومن هنا حين جاء يطلب قرضاً جديداً ، تجاوزت خجلي وقلت له (تره الطلب عليك صار هوايه.. بعدين اشعجب تداين بس مني ، احنه هوايه مصححين بالقسم!!) أجابني بعفوية (عيني ستاد حسن .. الله يخليك .. الجماعه كلهم يطالبوني بالدين .. أنت الوحيد تظل ساكت!!) وفيما كنتُ احاول التحرر من نوبة الضحك، كان هو قد حصل على المبلغ المطلوب واضافه الى قائمة الديون الضائعة!!