عالميَّة الثقافة!

الصفحة الاخيرة 2020/04/18
...

 جواد علي كسّار
 
أميركا بعد أوروبا، ترفع منذ عقود شعار الثقافة العالميَّة من منظور جيوسياسي، عبر أطاريح مشوبة بالسياسة كما حصل مع هانتغتون وفوكوياما، وإلى جوار ذلك ثمّ من نقد المفهوم من داخل أميركا كما حصل مع تشموسكي، ومن خارجها أيضاً.
من المؤلّفات العربيَّة الرائعة التي يسجّل صاحبها انطباعات دقيقة عن الحضارة الأميركية، هي كتاب «الفردوس الأرضي» للراحل عبد الوهاب المسيري (1938 ـ  2008م). فمن خلال هذا الكتاب يعي الإنسان جيّداً أزمة الحضارة الأميركيَّة الحديثة مع مقولتي الهوية والتاريخ، ويتوفّر على خلفيّة تمكّنه من تلقّي بعض الصيحات التي تعلو في ذلك الشطر من الكرة الأرضيَّة.
في الاتجاه نفسه قرأت تلخيصاً لكتاب المؤلّفَيْن قوام آنتوني وهنري لوتيسي غيت، الموسوم «الثقافة العالمية» (نيويورك، 717 صفحة).
يختار الكتاب لنفسه بداية منطقيَّة، عندما يشير إلى أنّ أغلب الدراسات التي كتبت في أميركا عن الثقافات العالميَّة، انطلقت من رؤية تُنصِّب المركزية الأوروبيَّة كمحور ومعيار. وبذلك لم تتوفّر للمجتمع الأميركي معرفة صحيحة حيال ثقافات أمم وشعوب العالم الأخرى.
انطلاقاً من هذه المقدّمة سعى مؤلّفا الكتاب إلى التعاون مع عددٍ من الباحثين والدارسين المنتمين لمختلف ثقافات العالم، كي يكتبوا مباشرة عن المكوّنات الثقافية لمجتمعاتهم وأهمّ التقاليد الراسخة فيها.
هكذا انتهى الكتاب إلى أنْ يكون مجموعة من الإجابات المستمدّة من أقلام مختلفة حيال ثقافة مجتمعاتها. بيد أنّ هذا الكمّ على التنوّع الذي توفّر عليه، جاء ليصطدم مع هدف الكتاب. فالهدف الذي توخّاه المؤلّفان هو توفير أرضية للقارئ الأمريكي، كي يدخل في نطاق ثقافة عالمية جديدة، مؤلّفة من مجموع التقاليد الثقافيَّة لأمم العالم. في حين جاء الكتاب فعلاً وكأنه استعراض عشوائي غير منظّم لتقاليد ثقافية متنوّعة، من جميع أنحاء العالم تمتدّ من الموسيقى حتى الدين!
إنَّ رؤية المؤلّفَيْن وهدفهما في توليف نظرة لثقافة عالمية متعدّدة المناشئ، كانت تستوجب أنْ يبذلا جهوداً في انتخاب المادّة وإلغاء ما هو غير مفيد، ثُمّ اعتماد معايير لتصنيف أولويات الثقافات العالمية؛ وأولويات كلّ ثقافة داخل إطارها الاجتماعي الخاصّ. كما كان يتعيّن عليهما أنْ يمحّصا المفاهيم الثقافيَّة على أساس معايير معقولة، لكي يأتي العمل مجدياً في نطاق الهدف الذي توخّياه.
بيد أنهما لم يفعلا شيئاً من ذلك، بل تركا المادّة التي جاءت إليهما على ما هي عليه، وكأنّ الهدف هو مجرد توفير نافذة يتسلّى عبرها القارئ الأميركي، وهو يتفرّج على صنوف الأعراف والتقاليد الثقافية لأمم الأرض!
إنّ هذه الطريقة المتحفيّة التي تحوّل ثقافات الشعوب إلى «معروضات» يتسلى بها إنسان الحضارة الأميركيَّة، تستعيد المنهجيَّة ذاتها التي رام المؤلّفان النجاة منها. فهي الأخرى تعزّز محورية القراءة الغربية لثقافات العالم، من خلال الحكم عليها بالموت ووضعها في متحف للفرجة.
فالثقافة التي تُختزل بالأعراف والتقاليد، والنظرة التي تساوي بين الموسيقى والدين، ولا تميّز بين ثقافة فاعلة وأخرى هابطة، والمنهجية التي تستحضر ثقافة الأمم بهذه الطريقة المتحفية، لا تختلف أبداً عن تلك التي تعلن مركزيتها للعالم على أساس إقصاء الثقافات الأخرى أو إلغائها. لكي يكون لهذه الملاحظة مؤدّاها في وعينا كمسلمين، نشير إلى أنّ الكتاب لم يخصّص سوى صفحة ونصف فقط للأخلاق الإسلامية، مع أنه يتألّف من 717 صفحة!
لستُ أدري إلى أين ستؤول النقاشات الحاضرة التي بدأت مبكرة، عن مصير الثقافة بين المحليَّة والعالميَّة، بعد كورونا؟ لكنَّ المهمّ بالنسبة لي أنْ يكون لنا نصيب بهذه النقاشات!