شكسبير والطاعون

ثقافة 2020/04/18
...

د. إيفيت ميللر ترجمة: جمال جمعة
 
في حين يعيش الملايين تحت ظروف الإغلاق والحجر الصحي لما قد يتحول إلى أشهر عديدة قادمة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل الظروف المماثلة التي حدثت في بلدة صغيرة في ريف إنجلترا قبل 500 عام تقريبًا، في عام 1564 عندما اجتاح الطاعون الدملي الريف. أصيب الزوجان الشابان، جون وماري، بالرعب، إذ كان لديهما ابن يبلغ من العمر ثلاثة أشهر في المنزل وكانا يائسين من نجاته من الطاعون. 
فقد أودت التفشّيات السابقة بحياة طفليهما الأكبر سناً، أغلق جون وماري أبوابهما ونوافذهما، ولم يسمحا لأي شخص بالدخول أو الخروج إلى أن يخمد الوباء، لقد فعلا ذلك في الوقت المناسب، مما جنبهما وابنهما الإصابة، كنية الزوجين معروفة لدينا: شكسبير. أما الطفل الذي تمكنا من إنقاذه فقد كان ابنهما ويليام.
نشأ وليام شكسبير ليصبح أشهر كاتب مسرحي في اللغة الإنجليزية. إلى جانب مسرحياته وقصائده، بقي عدد قليل نسبيًا من الوثائق المتعلقة بحياة شكسبير، لكن وثيقة من عام 1592 تشير إليه على أنه كاتب معترف به للمسرحيات الشعبية، في العام اللاحق، اندلع وباء الطاعون الدُّمَّلي مرة أخرى، مما أدى إلى إغلاق المسارح وإجبار شكسبير على استكشاف منافذ جديدة لإبداعه.
بدلاً من المسرحيات، كتب شكسبير قصيدتين عظيمتين في ذلك العام، بما في ذلك قصة حب "فينوس وأدونيس" الكلاسيكية شعراً، يبدو أن رعب الطاعون كان مهيمناً على عقل شكسبير عندما كتبها. الحب، كما يوضح في العمل، كان جميلاً ونقيًا لدرجة أن لديه القدرة على "دفع العدوى عن العام الخطير!". كان الحب من القوة "بحيث أنّ المحدّقين إلى النجوم، حينما كتبوا عن الموت، قد يقولون، إن الطاعون قد أبعدته أنفاسك".
عاد شكسبير في الوقت المناسب إلى كتابة المسرحيات وازدهر في المشهد المسرحي المزدهر في لندن، قام بتشكيل فرقته الخاصة للتمثيل وبنى مسرحًا شعبيًا، مع توافد حشود سكان لندن لمشاهدة مسرحيات شكسبير، في عام 1599، هدم هو وموظفوه مسرحهم القديم واستخدموا العوارض الخشبية لبناء مسرح "جلوب" الشهير الذي مثّلت فيه أعمال شكسبير للجماهير المكتظة، على منصّة واسعة في الهواء الطلق.
لم يكن خطر الطاعون بعيدًا على الإطلاق، فقد انتشر الطاعون الدمّلي بواسطة البراغيث المنقولة في وبر الجرذان، على الرغم من أن الناس في أيام شكسبير لم يكن لديهم فهم للسبب الحقيقي للطاعون، لكنهم أدركوا أنه كلما تجمعت حشود كبيرة مع بعضها فإن الوباء كما يبدو ينتشر بسرعة أكبر، المسارح بالتحديد كانت تعد بؤراً خطيرة لنشر
المرض.
ينوّه أندريو غور في دراسته الموسومة "مسرح شكسبير 1574 - 1642" إلى أن مسؤولي لندن ألقوا باللوم في نشر الطاعون الدمّلي على الجماهير القادمة إلى المدينة "لمشاهدة مسرحيات معينة تُمثَّل"، والتي تضمنت "اقتراباً شديداً من بعضهم البعض في غرف صغيرة ... تسبب وفقاً لذلك في العدوى بالطاعون، أو ببعض الأمراض المعدية الأخرى، والتي قد تتصاعد وتنتشر...". مع تفشي الطاعون العام، كانت مسارح لندن في أغلب الأوقات مغلقة أكثر مما هي
مفتوحة.
بعد أن تسبب تفشي الطاعون في عام 1601 في وفاة 30.000 من سكان لندن، أمر مجلس الملك الخاص جميع المسارح بالإغلاق كلما يرتفع عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الطاعون إلى "أعلى من الرقم 30" في الأسبوع. بعد ذلك بعامين، شهد تفشّيا أكبر للطاعون وعدداً من الوفيات أكبر من ذلك الرقم بعدة مرات.
قام ممثلو شكسبير بتنكيس العلم فوق مسرح "جلوب" إلى نصف الصارية، وأغلقوا الباب، واحتموا في منازلهم، آملين ومتضرّعين أن يتجنبهم الطاعون هم وأسرهم. كان شكسبير في ذلك الوقت يعيش في شارع سيلفر، داخل مدينة لندن القديمة، لحسن حظه، بدا أن منطقته تجنبت أسوأ ويلات الطاعون، لكنه كان يشاهد حينما استخدمت المدينة أشد الاجراءات صرامة لوقف انتشار المرض، تم رسم صلبان حمر فوق أبواب المنازل التي وضعت تحت الحجر الصحي، لأن أحد أفراد الأسرة أصيب بالطاعون. 
تظهر السجلات من ذلك الوقت أن العديد من الأسر أزالت هذه العلامات عن مداخلها، فلجأت سلطات لندن إلى أسلوب أكثر ديمومة، التعليم بالطلاء الزيتيّ، لإظهار الأُسَر التي أصيبت بالطاعون. في كل بيت، خشي الناس من جيرانهم وانطووا إلى الداخل، يتصارعون مع ضجر الحجز والرعب من 
المرض.
اندلع الطاعون مرة أخرى في لندن عام 1606. هذه المرة، لم يكن شكسبير في الحجر الصحي داخل منزله، يبدو أنه أخذ "رجال الملك"، فرقته من الممثلين، للقيام بجولة في البلدات والقرى في ريف إنجلترا، حيث لم يصل تفشي الطاعون. ومع ذلك، لا يبدو التمثيل لجماهير القرى القليلة مثيرًا لشكسبير مثلما هي الأجواء الصاخبة والطليعية في لندن المزدحمة ومسرح "جلوب" الشهير، وبينما كانت فرقته تتجول في المقاطعات، شرع شكسبير بكتابة سلسلة مرموقة من المؤلّفات.
بين عامي 1605 ـ 1606، كتب شكسبير (الملك لير) و (ماكبث) و (أنطونيو وكليوباترا)، كانت هذه الفترة "فترة ازدهار مكثّف للقوى الإبداعية أكثر من أي فترة أخرى في حياة شكسبير المهنية" وفقاً لما يقوله الكاتب ج. ليدز بارو، يعتقد أستاذ جامعة كولومبيا جيمس شابيرو أن الهروب من الطاعون في لندن منح شكسبير الوقت، أخيرًا، لتكريس نفسه كلّياً للكتابة بدلاً من الإخراج والملاحقات التجارية. "هذا يعني أن أيامه كانت شاغرة، فلأول مرة منذ أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، يتعاون مع كتّاب مسرحيين آخرين"، كما يكتب البروفيسور شابيرو في كتابه (عام لير: شكسبير في سنة 1606) الصادر عام 2016.
كانت الحصيلة بعضاً من أجمل المسرحيات وأعمقها في أعمال شكسبير ككل، كما أظهرت أن الخوف من الطاعون بقي دائمًا مع شكسبير وجمهوره، في (أنطونيو وكليوباترا)، ثمة جندي روماني يخشى من أن تسفر المعركة "عن وباء محقّق / يفضي إلى موت أكيد"، وبعبارة أخرى: الطاعون.
سلب تفشي الطاعون عام 1606 أرواح العديد من الممثلين الشبان الذين كانوا يقطنون مسارح لندن في ذلك الوقت بشكل مأساوي، عندما انقضت المذبحة، كان العديد من الممثلين المحنّكين الذين عملوا في ما كان يسمى "فرق الفتيان" من الشباب قد توفي، ومع موتهم السابق لأوانه، انتهت تقاليد مسرح لندن القديمة.
في الفترة التي أعقبت تفشي الطاعون عام 1606، استأجر شكسبير فرقة جديدة من ممثلين أكبر سناً، وفي عام 1608 بدؤوا بتقديم العروض في مسرح أصغر حجماً، مسرح "بلاكفرايرز" في لندن، قد يكون الحجم الأصغر طمأن رواد المسرح إلى أن انتشار الطاعون سيكون أقلّ احتمالاً بين عدد أقل من الناس، تتطلب الكتابة لمسرح داخلي أصغر، خاصة المسرح الذي يضاء بالشموع ليلاً، نوعًا مختلفًا من التمثيل، شرع شكسبير بكتابة مسرحيات أكثر حميمية، حيث يمكن للجمهور الأقرب إلى الممثلين رصد تعابير الوجه الدقيقة بشكل أفضل، إحدى أشهر المسرحيات المكتوبة لمسرح "بلاكفرايرز" هي "حكاية الشتاء". لم يكن مشهدها الأخير، حيث يعود تمثال الأم الميتة "هيرميون" فجأة إلى الحياة، ليكون مؤثراً سوى في فضاء حميم صغير مضاء 
بالشموع.
تمنح مسرحيات شكسبير صوتًا للرعب الذي شعر به معاصروه عندما واجههم الطاعون والخوف من العيش في الحجر الصحي والإغلاق، كما أعربوا كذلك عن أملهم في أن تتحسن الظروف وأن أيام المستقبل ستكون أفضل. استغل شكسبير شهوره وسنواته العديدة في الحجر الصحي وقهر العطالة بكتابة بعض من أجمل المسرحيات في العالم. اليوم، يمكن أن يلهمنا إرثه في محاولة ملء أيامنا بالإنتاجية ووضع مخاوفنا وآمالنا العميقة في الكلمات أيضاً.
عن: Aish