كان متوقّعا أن يضرب فيروس كورونا المستجدّ عمومَ الاقتصاد العالمي ويصيبه بالشلل، لا سيّما سوق النفط العالميّة التي كانت تعاني تدهورا كبيرا في مناسيب الأسعار بسبب تذبذب العرض والطلب حتى قبل تفشّي هذا الوباء. وبما أنّ الاقتصاد العراقي الريعي لا ينفكّ عن منظومة الاقتصاد العالمي، وما يرتبط بسوق النفط، الذي يعتمد اعتمادا شبه كليّ على الواردات النفطية، فإنّ من نافلة القول إنّ هذا الاقتصاد هشّ كهشاشة بورصة أسعار النفط ومزاج الدول التابعة لها، وقد استمرّت هذه الحال منذ تأسيس دولة العراق الحديثة ودخوله نادي الدول المنتجة والمصدرة للنفط حتّى الآن، وطيلة العقود المنصرمة لم تفكّر أيّة حكومة عراقية، من الحكومات المتعاقبة، بتنويع مصادر الدخل القومي العراقي لتكون مرادفة مالية إضافية للنفط ولكسر هيمنة احتكار برميل النفط الاقتصادَ العراقي الذي لم يزل مرتهنا به مهما كانت مناسيب أسعار ذلك البرميل، وذلك لعدم وجود بدائل مناسبة عنه، وثانيا لرفع المستوى المعاشي للمواطنين العراقيين أسوة بمواطني دول الخليج المجاورة للعراق، فلم يتحقق كلا الأمرين، فبقي الاقتصاد العراقي الريعي مكبّلاً بأسعار النفط، وبقي المواطن العراقي يرزح تحت خط الفقر وهو يعيش في بلد
"نفطي"!
وكان من الطبيعي أن تتأثر الدول ذات الاقتصاد الريعي والمعتاشة على النفط كالعراق بتفشي جائحة كورونا الذي أثّر سلبا في معادلات هذا السوق من ناحية الطلب والعرض، ليضع اقتصادات تلك الدول في موقف حرج، أو تحت طائلة الديون والمديونية المذلّة، كما يضعها تحت رحمة السياسات النفطية للدول صاحبة التأثير القوي في رسم خريطة السياسات النفطية في العالم، وتحت رحمة المضاربات والمناكفات السياسية بين الدول المحسوبة على النادي النفطي، سواءً إنتاجا، أو تصديرا، أو استهلاكا.
وعكس دول العالم النفطية لم توجد في العراق أيّة إشارة في الأدبيات السياسية أو الاقتصادية تشير إلى ضرورة تأسيس صندوق سياديّ نفطيّ، لا من قبل السياسيين، ولا من قبل خبراء المال والاقتصاد، ولم تُطرح هذه الفكرة بتاتا وكأنّ العراق يعيش في كوكب آخر وهو غير معني بالسياقات النفطية الصحيحة المتبعة في أغلب دول العالم فهو نسيج وحده، ووظيفة هذا الصندوق ـ الذي هو عبارة عن ادّخار فوائض الأموال أو المداخيل العالية لبعض الدول، وهي الاحتياطات المالية في البنوك المركزية التي تستثمرها في الدول الغنية عند الحاجة ـ أنّه يقي الاقتصاد الوطني من الصدمات أو الهزائز السياسية، أو الحروب أو المفاجآت المفجعة كجائحة كورونا، ومن إيجابيات هذا الصندوق استثمار الفوائض المالية لتحقيق عوائد مالية مرتفعة تحافظ على قيمة النقود عبر الزمن من التآكل، كما يسهم في رفع المستوى المعاشي لمواطني هذه الدول كونه يشكّل دعماً ماليا إضافيا للموازنات.
إقول ـ ولكن بعد فوات الأوان ـ إنّه لو كان العراق يمتلك صندوقا سياديا خاصا به لكان تأثير جائحة كورونا أقلّ وطأة على الاقتصاد العراقي الريعي المعرّض للإفلاس، فهو لا يمتلك صندوقا سياديا يكون سنداً له في الملمّات والأزمات، كأزمة داعش وكورونا، ولعدم وجود نيّة صادقة لتنويع مصادر الدخل القومي بعيداً عن النفط، سيبقى الاقتصاد العراقي يترنّح تحت رحمة مضاربات السوق النفطية ومزاج أوبك، وقد آن الأوان ليفكر السياسيون ومبرمجو الاقتصاد العراقي ومهندسو موازناته المالية العامة بزرع بذرة لتأسيس مشروع صندوق سيادي نفطي عراقي مثل الكثير من الدول النفطية التي تمتلك إمكانات إقتصادية أوسع من العراق، ومع هذا فقد باشرت في تأسيس هكذا صندوق لحفظ مصالح الأجيال اللاحقة التي قد لا تجد قطرة نفط واحدة لتصدّرها إذا ما احتسبنا أنّ العمر الافتراضي لنضوب النفط لا يزيد على بضعة عقود قليلة قادمة، فلا بدّ من التحضير لتأسيس هذا الصندوق، وهو أفضل من الحلول الجاهزة والباهضة كاللجوء إلى الاقتراض من الدول المانحة، أو من صندوق النقد الدولي، أو الاستعانة بالاحتياطي النقدي الاستراتيجي وذلك من أجل سدّ العجز في الموازنة التي ولدت بعجز مالي كبير ما قد يعرّض مسالة تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين إلى الخطر إذا ما اعتبرنا أنّ الموازنة العراقية هي موازنة ذات طابع تشغيلي بحت، وظيفتها الأساس تأمين تلك الرواتب. أمّا بقية الجوانب الاستثمارية والحالات الطارئة كالأمن والخدمات، والحالات الطارئة كجائحة كورونا التي تستوجب أموالا فعلمها عند الله والراسخين في هندسة الموازنات العامة!