علي حمود الحسن
ألهمت مسرحيات شكسبير صناع السينما منذ بداياتها الأولى، فأنتجت على مدار تاريخها الذي تجاوز القرن بعقدين، أكثر من 415 فيلماً روائياً طويلاً، بضمنها 84 شريطاً صامتاً، قصصها مقتبسة حد التطابق مع النص المسرحي، وأحياناً مستلهمة روحه، لكنَّ القليل من هذه الأفلام تناولت سيرة شكسبير المثيرة للجدل دائماً، حتى أنها تكاد تعدُّ على الأصابع، لأسباب: ليس أقلها شح المصادر الموثوقة المتعلقة بيوميات الكاتب الكبير، عدا شاهدة قبره، وسجلات الكنيسة التي توثق ميلاده وزواجه وموته، ولولا مبادرة اثنين من أعضاء فرقته “رجال الملك”، بإصدار أعماله المسرحيَّة الكاملة، لضاع تراث شكسبير وصار مجهولاً.
وتعدُّ السنوات الثلاث الأخيرة من حياة صاحب “الملك لير” الأكثر غموضاً، إذ توقف عن التأليف وغادر لندن بغضب الى بلدته الأولى ستراتفورد التي فارقها لأكثر من عشرين عاماً، هذه السنوات الثلاث التي أعقبت حريق “مسرح غلوب” الذي يمتلكه أثناء عرض مسرحيته “هنري الثامن”، هي محور أحداث فيلم “الكل صحيح” (2018) للمخرج الانكليزي كنيث براناه الشغوف بأعمال شكسبير المسرحيَّة والشعريَّة، بمبنى سردي اعتمد على وقائع خياليَّة تاريخيَّة، هندسها السيناريست والكاتب المسرحي بن التون ونفذها مدير التصوير زاك نيكسون (موت ستالين) الذي غلف مشاهد الفيلم بلقطات أضفت إيقاعاً درامياً يظلم تارة ويسطع بهجة تارة أخرى، فضلاً عن مشاهد صورها بتنوعٍ بصري مشبعٍ بألوان الطبيعة، وهو بذلك أسهم مع سيناريست عارف ومخرج مهووس بكل ما يمت لشاعر إنكلترا العظيم بصلة، بتعميق الأحداث المختزلة أصلاً وتطوير مساراتها السرديَّة وفق سياقها التاريخي، وكل ذلك لا يحدث لولا وجود ممثلين كلاسيكيين معظمهم خرج من معطف المسرح، فالمخرج كينيث براناه (“عطيل”، “جعجعة
بل طحين”، “هنري الخامس”، “هاملت”) جسد شخصيَّة شكسبير بعد أنْ غيَّرَ شكله، لا سيما الأنف، وهي مهمة ليست سهلة، فشكسبير بعد تقاعده وانهماكه في ترميم
خراب أسرته واغترابه في بلدته وعزوفه عن التأليف، بدا منطفئاً وخانعاً لا ينتمي لشاعر عظيم وكاتب مسرحي أعظم، بمعنى لم ينجح المخرج والممثل براناه بتبرير هذا التحول في حياة مؤلف “روميو وجوليت”.
في ذات الوقت أدت البريطانيَّة المخضرمة جودي دنيش (الملكة اليزابيث في “شكسبير عاشقاً”) شخصيَّة آن هاثواي المركبة، فهي التي تكبر شكسبير وأم بنتيه وولده، التي تركها لعشرين عاماً تعاني من تربيتهم وبعد عودته ومعاملته كضيفٍ عابر، إذ اختارت له “أفضل سرير” (الضيوف يحصلون على الأفضل)، وهي أيضاً تعاني نقصاً لأنها أميَّة لا تقرأ ما يكتبه زوجها،
فضلاً عن اعتقادها بأنه خانها باهتمامه بـ”الشاب العادل الجميل” الذي تربطه به علاقة شاذة، كل هذه المشاعر والانفعالات جسدتها دينش باسترخاء وحضور، بينما كان الحضور الفخم للمثل الإنكليزي الشهير إيان ماكيلين بدور راعي شكسبير ومعبوده ايرل ساوثامبتون، إذ جسد شخصيَّة النبيل المتيم بشعره وعظمة مسرحياته، الذي لا يخفي نظرات شبقة.
عوض المخرج من خلال كاتبه المفضل التون محدوديَّة الأحداث وعدم تناميها الدرامي، بابتكار خطوطٍ سرديَّة، أبرزها وربما المحرك الذي أسهم في حبك الأحداث، حكاية موت هلمينت التي أوهموا أباه أنه مات بالطاعون، لكنه مات غرقاً بسبب أخته التوأم التي كانت تكتب له القصائد وينسبها الى لنفسه ليرضي أباه، فمنذ المفتتح وبعد مشهد الحرق مباشرة وخلال عودة شكسبير الى ستراتفورد يقف قليلاً للاستراحة فيفاجأ بطفلٍ صغيرٍ يحدثه عن قصته التي يجب عليه أنهاؤها، لنكتشف أنه شبح ابنه الذي يظهر مراراً لكنه يختفي بعد أنْ يكتشف شكسبير سرَّ موته.
الفيلم تحية لشكسبير من مخرجٍ محبٍ، أراد من خلال
سردٍ بصري خيالي تاريخي، سد ثغرات في سيرة حياة
حافلة.